لم يكن هناك أجمل من مشاعر الود الكورية تجاه مصر في أيام زيارتي لكوريا، وحرص كوري على التواجد المصري في مختلف المناسبات والمؤتمرات الكبرى، وأبرزها مؤتمر دولي عن الاستخدام الآمن للذكاء الاصطناعي في المجال العسكري.
ويعكس التواجد المصري المكثف في سول مدى تطور العلاقة المصرية - الكورية، لقد باتت كوريا قوة مهمة على الساحة الدولية، لا تختلف عن العواصم الكبرى، وفي المقابل فإن كوريا تبدأ رحلتها الجديدة، ودورها الجديد وهي تدرك حاجتها لشراكة دولة محورية مثل مصر.
ويمكن للمرء أن يلحظ بقوة كيف نمت علاقة تدخل عامها الثلاثين العام المقبل إلى "شراكة محورية"، والمثير هنا أن هذه العلاقة تجذرت وتشعبت، وبدأت تنتقل من المستوى الرسمي إلى المستوى الشعبي بسرعة، ووتيرة لم يكن أحد يتخيلها.
وأحسب أننا نشهد "شراكة المستقبل" ما بين دولتين محوريتين على الساحة الدولية، ربما ستقدم مثالًا فريدًا لشراكة أحد قادة الجنوب العالمي وإحدى الدول الصناعية.
تري كيف تصنع القاهرة وسول خريطة الطريق نحو المستقبل.
وبعد زيارة مكثفة ولقاءات عدة في سول، لا يمكن للمرء سوى أن يخرج بملاحظة مهمة؛ وهي أن كوريا في لحظة تحول تاريخية، ولعل أبرزها المسألة الديموجرافية، واستقطاب عمالة، ونقل صناعات للخارج، واختيار شبكة حلفاء من دول محورية، وتأمين مصادر الطاقة، واستقدام ومساعدة شركات ناشئة، وزيادة الاستثمار، والشراكات في علوم المستقبل وخاصة "الذكاء الاصطناعي" في المجال العسكري.
وبالنظر إلى أجندة كوريا.. يرى رئيس الوزراء الكوري هان دوك سو، "أن دور التجارة حاسم؛ لأن الاقتصاد لديه سوق محلية صغيرة نسبيًا".
ومن هنا تتطلع كوريا لرفع عدد شركاء اتفاقيات التجارة الحرة معها إلى 77، خلال فترة ولاية الرئيس يون سوك يول، وبعض المناطق المستهدفة هي مصر ومنغوليا وباكستان وبنجلاديش وتنزانيا والمغرب.
وتعتبر هذه البلدان شركاء لاتفاقية الشراكة الاقتصادية؛ لأنها يمكن أن تكون بمثابة قواعد إستراتيجية للإنتاج والصادرات، في حين تنويع سلسلة التوريد الكورية للمعادن الأساسية.
ويؤكد سفير كوريا في مصر كيم يونج هيون دومًا أن بلاده تعتبر مصر شريكًا إستراتيجيًا محوريًا داخل القارة الإفريقية حاليًا، وأن أكثر من 40 شركة كورية عبر قطاعات مختلفة تعمل داخل مصر، مما يُظهر التآزر التجاري القوي بين البلدين.
ويسير حجم التجارة بين مصر وكوريا الجنوبية على مسار نحو التعافي في عام 2024، مدعومًا بالتحولات الإيجابية الأخيرة في المشهد الاقتصادي المصري.
وفي الوقت نفسه تسعى كوريا لتأمين السيادة الوطنية في العلوم والتكنولوجيا، وستذهب استثمارات حكومية تبلغ 30 تريليون وون كوري إلى 12 تقنية إستراتيجية وطنية.
وتتضمن الخطة الخمسية رؤية متوسطة إلى طويلة المدى واتجاهًا سياسيًا لتطوير 12 تقنية إستراتيجية وطنية؛ مثل أشباه الموصلات والشاشات والبطاريات الثانوية والتنقل والطاقة النووية من الجيل التالي والتكنولوجيا الحيوية المتطورة والفضاء والذكاء الاصطناعي والكمي.
وسيتم تطوير مشاريع جديدة في صناعات فجوة البحث والتطوير الرئيسية مثل الروبوتات المتقدمة والتصنيع والهيدروجين والأمن السيبراني.
وفيما يبدو أن هذا كله من أولويات الحكومة المصرية في المستقبل.
وتشهد العلاقات تشعبًا وتعمقًا كبيرًا، فقد أنشأت مصر وكوريا الجنوبية "محفظة تعاون' بقيمة 1.3 مليار دولار، تعكس عزم مصر على تعزيز شراكتها الإستراتيجية مع كوريا الجنوبية لتحقيق التقدم والازدهار المتبادل.
ونقلت وزيرة التعاون الدولي رانيا المشاط هذا التصريح خلال كلمتها في القمة الكورية الإفريقية في يونيو الماضي، وأكدت المشاط التزام مصر الثابت بالأولويات الرئيسية في إطار الشراكة الكورية - الإفريقية، وتشمل هذه الأولويات دعم خطط التنمية، والسعي إلى حلول تمويلية مبتكرة، وتعزيز مشروعات البنية الأساسية، وتعزيز قطاع الصحة، وجذب الاستثمارات، وربط السلام بالتنمية، ومكافحة الإرهاب، ونقل التكنولوجيا، ورصد النتائج.
ومن جانبه يرسم السفير المصري لدى كوريا الجنوبية خالد عبدالرحمن رؤية مصر لخريطة طريق نحو المستقبل مع كوريا، وأبرزها: زيادة الاستثمارات الكورية لـ20 مليار دولار، إقامة مصنع للسيارات الكورية الكهربائية، زيادة الاستثمارات في العاصمة الإدارية المصرية، زيادة استثمارات صناديق التقاعد والصناديق السيادية في المشروعات العقارية، وإقامة المدن الذكية معًا في الشرق الأوسط وإفريقيا، وإقامة منطقة صناعية كورية في منطقة شرق السويس، وتوطين الصناعة، وجذب الشركات الكورية الكبيرة ومتوسطة الحجم، مركز إقليمي لتدريب العمالة، اتفاقية "حركة العمالة بين البلدين"، وبما يوفر 10 آلاف عامل مصري لكوريا، تعزيز التعاون في الذكاء الاصطناعي وعلوم المستقبل، وإقامة فرع إقليمي بمصر للمعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا، دعم الشركات المصرية الناشئة، 2 مليون سائح كوري، وإقامة خط طيران مباشر منتظم بواقع رحلة يوميًا، استغلالًا للزخم مع تسيير رحلتين يوميًا بداية من أكتوبر المقبل.
ويرى أن الوقت مناسب لزيارة رئاسية كورية لمصر، وإعادة تفعيل مجلس الأعمال المصري - الكوري، وإقامة حفلة غنائية كورية عند سفح الأهرامات بمناسبة مرور 30 عامًا على إقامة العلاقات بين البلدين.
ويبقى أن ما يجري في نهر العلاقات المصرية - الكورية الجنوبية كبير جدًا، فقد تمكنت الصناعات الكورية من أن تجد طريقها في السوق المصرية، وتعد شركة سامسونج علامة نجاح باهرة، فهي تصدر من مصر لـ48 دولة، والموجة الكورية بثقافة الكي بوب تجد طريقها لقلوب المصريين، وفي المقابل خطفت مصر قلوب وعقول شباب وكتاب كوريين، وشاركت شابة كورية في مسلسل الحشاشين، وهناك أكثر من 300 شخص من نخبة ممتازة في الجمعية الكورية - المصرية للتنمية، ولا تتوانى عن الدعاية وإرسال وفود شركات كورية لمصر، وطوال رحلتي لم يتوقف السؤال عن أمن وأمان مصر، ودور مصر في حفظ الاستقرار بمنطقة ملتهبة، وكيف أن المظاهرات المتعاطفة مع الفلسطينيين والمنددة بالجرائم الإسرائيلية باتت حدثًا أسبوعيًا في وسط العاصمة سول، ويقول لي محدثي من كبار خبراء العلاقات الدولية، والمختصين في الشرق الأوسط إن المزاج العام يتغير، وإن غالبية المتظاهرين هم من الشباب، ويعلق أحدهم بالقول "يبدو أن المستقبل يميل لكم"، وتقول لي الكاتبة الكورية شيري: "احب الثقافة العربية، واحب مصر والمصريين، ومن لا يدرك أن مصر والعرب أسهموا على الأقل في نصف الحضارة الإنسانية.. فهو لا يعرف شيئًا عن التاريخ الإنساني".
والملاحظة الأخيرة هنا هي أن المصريين وصلوا إلى كوريا ويقيمون ويعملون بها ويتحدثون الكورية بطلاقة، ويقول لي سفيرنا النشط خالد عبدالرحمن إنه حريص على اللقاء بهم دوريًا، وأقول لهم "أنتم خير سفراء لمصر".
ويبقى إن الروابط بين مصر وكوريا لا تقتصر على الدبلوماسية فحسب؛ بل إنها ترتكز على الخبرات المشتركة، والعلاقات الإنسانية، والتبادل الثقافي والمستقبل المشرق.