أنا رجل كتبت علي الأقدار أن أحمل أوزارا أثقلتني كالجبال تدهسني تحتها لا أدر كيف الخلاص, عشت عمرا أصدق القول بأن لكل شئ مفتاح وأن المال هو مفتاح السر الذي تنفتح له كل الأبواب فكان هدفا أسعي إليه, أكنزه, أحصل عليه بكل السبل ما كان منها مشروعا و ما لم يكن, و لا يهم أن يكون في طريقي ضحايا, أو بيوتا تنخرب, المهم هو المال و فطنتي في الحصول عليه و قدرتي علي المراوغة و التحايل حتي لا أكون أنا ضحية لغيري في يوم من الأيام فكما أتكالب علي الدنيا بقلب عمي إلا عن مظاهرها الخداعة هناك من يتكالب عليها أيضا و قد يكون أكثر ذكاء و احتيالا فيوقعني فريسة له, و لكني كنت دائما منتصرا, أدوس في طريقي كل شيء, الأخلاق و المبادئ و الأعراف و التقاليد و المثل و كل دعائم الضمير في نفسي, حتي مظهري الديني و أعمال الخير التي كنت أقوم بها لم تكن غير رتوش أجمل بها صورة قاتمة لنفس ضاعت في دنيا الشيطان لا أدرك أن الدنيا مهما امتد بي العمر فيها ستنتهي و لا مآل لي غير حفنة من تراب تمتليء بها عيني انتظارا لموقف عظيم أراه يقترب مني أتجرد فيه من كل شيء, المال, و الجاه, و قدرات الذكاء و التحايل و مجد الدنيا و زهوها لا تثقلني غير ذنوبي و عشم في رحمة الله لا أدر إن كان لي حق فيه أم لا ؟.
موضوعات مقترحة
أنا الآن في العقد السابع من عمري, أمتلك أراض و عمارات و شركة للمقاولات و لدي عزوة من الأولاد, أعطتني الدنيا من زينتها كل شيء إلا إحساسا واحدا لم يكن لي أن أعيشه أبدا و هو الإحساس بالأمان و الطمأنينة, يتملكني القلق دائما, أخشي من الغد القادم لا أعرف ماذا يخبيء لي, و أهاب الموت ليس خوفا منه و لكن من تلك اللحظة التي أواجه فيها ربي و التي لم أعرف لها قيمة إلا في هرمي, قبل خمسين عاما و في ظل فتوتي و إرهاصات الشر الأولي في نفسي وضعت يدي علي ثروة أبي عقب وفاته و لم يكن له وريث غيري و أبناء شقيقي الوحيد و الذي كان قد مات في حادث سيارة قبل وفاة والدي ببضعة أعوام. كانوا صغارا لم يشتد لهم ساعد, تزوجت أمهم من رجل آخر و أجبرتها علي ترك أولادها ليكونوا تحت رعايتي و وصايتي أيضا, لم أكن في حاجه للتلاعب في الوصاية فقد احتلت علي والدي و جعلته يكتب كل شيء لي في الإرث بحجة أنني من أدير المال وأرعي أبناء أخي, بمضي الوقت تزوجت وأنجبت عيالا امتلأ البيت بهم و أولاد عمهم و هيأ لي الشيطان أنني طالما أقمت علي تربية أولاد أخي فذلك هو كل حقهم عندي واختصصت أولادي بكل مالي غير نفقة أنفقتها عرضا علي عيال أخي حتي تخرجوا في الجامعة وطلبت منهم أن يستقلوا بحياتهم وأعطيتهم مبلغا من المال يستعينون به في دنياهم لا يساوي شيئا مما لهم عندي وكنت أظن وقتها أنني أرضيت ضميري ناحيتهم وغرقت في مشروعاتي ورحلة البحث عن المال بأي طريقة مؤمنا أن أفكاري المادية هي الطريق الصحيح الذي يجب أن يسلكه أولادي من بعدي و لكني لم أكن أدر أن المال الذي يمكنه أن يشيد البناء و يعلو به يمكنه أيضا أن يهدمه و يتلاشي المال و يضيع معه كل شيء إلا الحسرة علي ابني الأكبر الذي أكله الشيطان إدمانا و أوقع به في براثن الهلوسة ودروب الكيف القاتلة حتي مات من أثر جرعة زائدة أما ابني الأصغر و ابنتي فقد هجراني غضبا و لعنة بسبب مالي و لأنهما يريانه حراما, سافرا خارج البلاد و ابتلعتهما الدنيا بلاد الله لخلق الله لا أدر أين هما, و ها أنا وحيد لا يساندني في شيخوختي أحد غير أبناء أخي الذين ظلمتهم صغارا فبروني كبارا, و تعلمت منهم أن رحلتي وراء المال شيدت لي صرحا عظيما و لكن من الرمال سرعان ما تهاوي مع تيارات و عواصف الدنيا ووجدت أني أمام قرار حتمي و هو أن أعيد الحق لأصحابه من أبناء أخي لعلي أطهر بعض نفسي, و لكن كيف يمكن لي أن أطهر نفسي و هناك كثيرون تحايلت عليهم و امتصصت أرزاقهم بمنطق شطارة زائفة و مضي العمر و احترقت الأيام بنيران المال و شهوته و خلفت في نفسي تلالا من رماد أسود غطي علي كل شيء فلم يعد للمال متعة أو شغف للحصول عليه و لم يكن أمامي غير أن أصفي كل تجارتي و أقبع في بيتي تغلني أمراض الشيخوخة و الوحدة إلي ما لا نهاية.
أعرف أنني أوشكت علي آخر محطة في رحلتي و لابد من لحظة النهاية و لكن خوفي ليس من الموت في حد ذاته و لكن كيف لي أن أواجه ربي بكل هذا الثقل من أحمال الذنوب و الخطايا, هداني عقلي أن أتبرع بكل مالي في أوجه الخير و الصدقات لعلي أتخفف من ذنبي و لكن ألا يكون في ذلك ظلم لابني و ابنتي اللذين يعيشان في الخارج أليس من الجائز أن يعودا يوما بعد وفاتي يبحثان عن إرثهما في أبيهما, هل يلعناني ميتا كما لعناني حيا ؟
ليتهما يعلمان قدر ما أنا فيه من كرب و معاناة و مرض, حتي لو كانا يرفضان مالي الحرام و هجراني بسببه لكن أنا في النهاية أبوهما و لي حق عليهما, هما يتهماني أني كنت السبب في موت أخيهما و أنه بإدمانه و موته دفع فاتورة مالي الحرام.
لست أدر ماذا أفعل هل أتكور عجزا و يأسا علي شيخوختي حتي توافيني منيتي و أموت وحيدا منبوذا, و لكني أخاف من هذه اللحظة ترتعد فرائصي من المواجهة المحتومة فليرحمني الله..!
ق. م
إن أكثر ما يثقل الإنسان و يوقعه في مدارك اليأس هو ذلك الإحساس الأخير بدنو الأجل في وقت ضاعت فيه كل الفرص للنجاة و لم يتبق غير الحسرة تجتاح الروح فتقضي عليها خوفا و فزعا و لكنك يا أخي نسيت في خضم همك و ذنبك أن باب التوبة مفتوح أمام العبد يسعي فيه لخالقه راجيا رحمته إلي نهايته و النهاية هنا تتمثل في آخر لحظة للإنسان في الدنيا و هي ما أطلق عليه الغرغرة و ذلك بنص الحديث الشريف الذي رواه الترمزي عن الرسول الكريم صلي الله عليه و سلم إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر فلما تخشي لقاء رب المغفرة و الرحمة و تفزع منه و هو يفتح لك بابه, ألم يرشدك وعيك بإعادة الحق لأصحابه ؟ ألم تهتد لتطهير نفسك و مالك بالصدقات و أوجه الخير ؟ ألست قادرا علي أن تسعي و إن كنت شائخا في مناكب الأرض بالخير كما كنت تسعي في مناكبها شابا بالشر ؟ إذا طالما أنك قادر علي الفعل لم تعلن الروح فيك الرحيل فأنت أمام فرصتك الأخيرة فاجتهد فيها لا تبالي أو تخف, أما ابنك و ابنتك فقد كانا علي حق في هجر المال الحرام لا هجرك فهما النبت الطيب في حياتك و في يقيني أنهما لو علما صدق توبتك و تطهرك سيأتيان إليك حتما ليحيطاك بحبهما و اهتمامهما برا و رعاية و يعاوناك أيضا فيما تفعل من أوجه الخير و ساعتها هما من يفعلان فعل تطهير المال إما بإنفاقه كله أو بعضه لوجه الله فذلك شأنهما أما أنت و قد بلغت أرذل العمر و وهن العظم منك فذلك لحكمة يعلمها المولي عز و جل يريك فيها و يري غيرك ممن غرتهم الدنيا نهاية الطريق و ما هي عليه الدنيا من وهم و تذكر يا أخي قول الله تعالي في محكم آياته والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلي أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير(70) والله فضل بعضكم علي بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم علي ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون(71) والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون(72) صدق الله العظيم