في كل عام أقف ها هنا بين تلال من الحيرة عاجزة عن انتقاء كلمات يمكنها أن توفيك بعض حقك أو وصف قدرك متسائلة: بأي كلمات سأبدأ حديثي عنك؟ وما الذي يمكن أن يضيفه حرفي المتواضع في إلقاء الضوء على سيرتك الزكية العطرة؟ في الحديث عن طرق اقتفاء أثرك، ونعمة الاقتداء بك، التمس لي العذر يا سيدي، فلم يتبق لي من مفرداتي إلا صيغة من صيغ الصلاة عليك؛ اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا "محمد" وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أحيانًا يكون من الصعب عليك أن تصف عزيزًا لديك، تجد نفسك مغتربة عنك حين تتأهب للحديث عنه، على الرغم من محبتك له وشعورك اللا متناهي بمحبته هو أيضًا لك، هذا هو الوصف الذي يمكنني أن أعبر به عن موقف يمر بك، ينتزع منك كلماتك في لحظات، ويبسط أمامك بساطًا من تردد وحيرة، بل وقد يصل الأمر إلى الشعور بالإخفاق والفشل.
تود حينها أن تلقي باللوم على كل وسائل التعبير التي منحها الله لك، تلتمس السمع والبصر واللسان تسألهم عونًا أو دعمًا لك فلا تجد إجابة عن سؤلك، ولا تجد رفقًا منهم وترفقًا لحالك وقلة حيلتك، إنها الحقيقة التي تتجلى أمامك اليوم وأنت ها هنا تقف إلى جانبي متعجبًا من عجز أصابك فسلبك أدواتك التي طالما استخدمتها ببراعة في الإعلان عما يدور بخلدك.
تذكر معي دهشتك عندما تجد نفسك مشدوهًا مذهولًا أمام موقف استعظمته نفسك، وكادت تنكره عليك روحك، حين تتوقف عقارب الساعة عن دورانها ولا تتوقف إلا أمامك، إنها نفس الحيرة التي قد تصل بك لدرجة من درجات الشك، تتساءل عن سر ضعفك في وصف من ملك عليك روحك وفؤادك وعقلك.
وهذا مشهد آخر استدعيته من خيال لموقف كثير الشبه بموقفك، حين تجد الدموع تملأ عينيك، تنهمر كالمطر وتفيض كفيضان أقسم ألا يتركك إلا وقد أغرقك، هذا المشهد الذي يتكرر عليك حين تفاجئك الأقدار بمنحك ما لا تتوقعه نفسك، فيصبح فوق طاقة تحملك، تختبئ الكلمات وراء ستار من حيرة تتركك وتقف بعيدًا تراقب فعلك ورد فعلك.
تشير عليك نفسك بأن تتوقف وتبتلع كلمات مدحك وإطرائك، فالمقصود هنا أكبر من أن تصفه كلماتك والمحبوب هنا أعظم من أن ينتظر منك حديثًا آخر بعد حديث رب الكون عنه، علينا أن ننتبه فالذكرى وصاحبها لا ينتظران منا حديثًا بقدر ما يحملان لنا معهما نفحات وأنسامًا وعبيرًا من الهدى، من الرحمة والمغفرة.
صاحب الذكرى مر عبر السماوات العلى، صاحب الذكرى اختصه الله برسالته الخاتمة، فهو المنصور المؤيد حين يحل وهو المبارك من لدن رب رحيم قال فيه: "وإنك لعلى خلق عظيم" من نحن حتى نظن أن بعد حديث الله عنه سينظر أحد لحديثنا، بعد أن وصفه ربه بصاحب الخلق العظيم، نبي الرحمة ورسول المغفرة، من أمر الله الكون كله بأرضه وسمائه وجميع مخلوقاته، بضرورة تعظيمه والإيمان برسالته وكتابه الذي أرسل به للعالمين، بالاعتراف بفضله وديمومة تأمرنا بالصلاة عليه.
نرجوك في ذكرى مولدك حين تتجدد أن تمنحنا العفو إذ عجزنا عن وصفك بما تستحقه، اغفر لنا قلة حيلتنا عن مدحك بما يليق بك، تقبل منا محبة أنت تعلمها في كل مرة صلينا فيها عليك، امنحنا شفاعتك يوم المشهد العظيم، اشملنا بمحبة منك تنجينا من هول الدنيا ومفاتنها التي تتزين بين اللحظة والأخرى، دعنا نقتبس من نور هدايتك ونهج سيرتك ما يبعث بقلوبنا السلام والأمل في بلوغ منزلة تجعلنا مقربين منك ومجاورين لك.