حشود ومناورات، وإطلاق صواريخ، واستفزازات وصلت لحد الصدام المسلح، وتكتلات عسكرية -غير مألوفة- بين قوى إقليمية ودولية، سيطرت -كلها بقوة في الفترة الأخيرة- على المشهدين الأمني والسياسي في منطقة آسيا/المحيط الهادئ.
أنباء متلاحقة ومتداخلة، يسهل رصدها، عما شهده -ويشهده- حاليًا مسرح العمليات العسكرية بمنطقة آسيا/المحيط الهادئ، أقربها للذهن ما ورد –مؤخرًا- عن مغادرة حاملة الطائرات الأمريكية التي تعمل بالطاقة النووية، "ثيودور روزفلت"، الشرق الأوسط، باتجاه شمال الأقصى، حيث تجري هناك -وتحديدًا في بحر اليابان/الشرقي- تدريبات بحرية روسية-صينية واسعة النطاق، وعلى درجة كبيرة من الأهمية، يصاحبها -ويتزامن معها- إطلاق صواريخ باليستية كورية شمالية، وزيارة يقوم بها مسئول أمني روسي كبير لبيونج يانج، ويقابلها -في جانب آخر- الدعوة لتوسيع تحالف "أوكوس" العسكري بضم أوتاوا مع واشنطن ولندن وكانبرا، للحد مما يسمى بنفوذ الصين، التي حدثت تحرشات فعلية بين بحريتها ونظيرتها الفلبينية.
في محاولة لتفكيك هذه "الحزمة" المترابطة والمعقدة من التحركات العسكرية الظاهرة والواضحة وضوح الشمس للقوى الإقليمية والدولية في "آسيا/باسيفيك"، أبدأ بالأحدث، وتحديدًا عما شهدته شبه الجزيرة الكورية من تطورات أمنية خطيرة.
يوم الخميس الماضي، أطلقت كوريا الشمالية ما بين ثلاثة إلى أربعة صواريخ باليستية قصيرة المدى، حلقت -جميعها- بمسافة 360 كيلو مترًا، ثم سقطت في بحر اليابان/الشرقي، وهذه المسافة -حسب التقديرات- كافية لاستهداف مدن ومنشآت عسكرية رئيسية في كوريا الجنوبية، أهمها: العاصمة سول ودايجون وجيريون جوجونسان، وتردد أن اختبار هذه الصواريخ إنما يأتي تمهيدًا لتصديرها إلى روسيا.
منذ بدأ العام الحالي، أطلقت كوريا الشمالية 37 صاروخًا باليستيًا، وأرجعت بيونج يانج عملية الإطلاق الأخيرة بأنها جاءت للرد على "تدريبات الحرب الاستفزازية الكورية الجنوبية-الأمريكية "اولتشي فريدوم شيلد"، الهادفة لغزو أراضيها".
عقب إطلاق الرشقة الأخيرة من الصواريخ، قام الزعيم الكوري الشمالي، كيم جونج أون، بزيارة-هي الأولى المعلنة من نوعها- لمنشأة تخصيب اليورانيوم ومعهد الأسلحة النووية، وأصدر التعليمات بزيادة إنتاج الرؤوس الحربية، وهو الأمر المحظور بموجب العديد من قرارات مجلس الأمن.
ويسود الاعتقاد بأن بيونج يانج ستجري تجربتها النووية السابعة تزامنا مع الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نوفمبر المقبل، وأنها بحلول عام 2027 ستتمكن من تأمين ما يكفي من المواد النووية لنحو 200 رأس حربي، وبحلول عام 2030، سوف يصل العدد إلى 300.
كيم شدد على أن كوريا الشمالية دولة نووية مسئولة، وتحتاج إلى زيادة قدراتها للضربة الوقائية. وخلال لقائه الأخير مع سكرتير الأمن القومي الروسي، سيرجي شويجو، أكد الزعيم توسيع التحالف مع روسيا طبقا للشراكة الإستراتيجية الشاملة.
هذا التصعيد الخطير للتوتر في شبه الجزيرة الكورية تزامن مع مناورات عسكرية روسية-صينية مشتركة، في بحر اليابان/ الشرقي، هي الأكبر من نوعها منذ ثلاثة عقود، وتحمل اسم "أوشن 2024"، وتشتمل التدريبات على مشاركة 400 سفينة و120 طائرة ومروحية و90 ألف جندي. ووفقًا لوزارة الدفاع الروسية، تهدف إلى تعزيز القدرات البحرية لموسكو في المحيطين الهادئ والأطلسي، بالإضافة إلى بحور: الأبيض المتوسط وقزوين والبلطيق، وتستمر المناورة حتى يوم غد الإثنين.
ضمن تدريبات "أوشن 2024"، أطلقت السفن الروسية والصينية نيران المدفعية على أهداف بحرية للعدو المفترض. وفي كلمته الافتتاحية عبر الفيديو، أكد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين أن واشنطن وحلفاءها يعززون وجودهم العسكري بالقرب من الحدود الروسية بآسيا والمحيط الهادئ، وهو ما يمكن أن يخل بتوازن القوى.
من جانبه، وردًا على تصريحات أمريكية بأن الولايات المتحدة تهتم بنشر صواريخ متوسطة المدى في اليابان، أعلن الفريق في الجيش الصيني، هي لي، أن بكين ستتخذ إجراءات فعالة إن أقدمت واشنطن على نشر مثل هذه الصواريخ بمنطقة آسيا والمحيط الهادئ. وقال: "بغض النظر عن موقع نشرها (الفلبين أو اليابان)، هذه الصواريخ الأرضية ستكون أكبر تهديد لأمن منطقة آسيا والمحيط الهادئ".
تحت عنوان "التصدي للصين: التعاون الثلاثي بين الولايات المتحدة واليابان والفلبين في بحر الصين الجنوبي"، كتب الخبير الياباني بالمعهد الوطني لدراسات الدفاع، إييدا ماسافومي، نصًا: "عجلت الضغوط المتزايدة التي تمارسها الصين على الفلبين في بحر الصين الجنوبي بعقد أول قمة ثلاثية على الإطلاق لقادة الدول الثلاث التي تركز على الأمن بين اليابان والولايات المتحدة والفلبين. وأصدرت الدول الثلاث "بيان رؤية مشتركة" عقب الاجتماع، مما أثار استياء الصين".
أضاف الخبير الياباني قائلا: "بالعودة إلى سبعينيات القرن الماضي، كانت تصرفات الصين في بحر الصين الجنوبي مصدر عداء مستمر لكل من: الفلبين، فيتنام، ماليزيا، ودول إقليمية أخرى. وقد شملت هذه التصرفات الاستخدام الفعلي أو التهديد باستخدام القوة العسكرية لتأكيد مصالح الصين الإقليمية والبحرية في جزر سبراتلي وجزر باراسيل، التي تطالب بها دول أخرى في جنوب شرق آسيا".
في رد رسمي مشترك على التطورات الأخيرة في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، أكدت سول وطوكيو وواشنطن -من جديد- على التزامها بالتعاون الأمني الثلاثي. عقب محادثات دفاعية ثلاثية بسول، أشار ممثلو العواصم الثلاث إلى أن "إطار التعاون الأمني بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة واليابان" الموقع في شهر يوليو الماضي، هو الأساس لإضفاء الطابع المؤسسي على التقدم المحرز حتى الآن في العلاقات الثلاثية، وتعزيز التعاون الأمني بشكل منهجي ومستقر.
اتفق ممثلو الدول الثلاث على البحث باستمرار عن فرص مختلفة لإجراء تدريبات عسكرية ثلاثية في المستقبل، وتحديث خطط التدريبات الثلاثية بحلول نهاية العام. أشاروا إلى أن التدريبات العسكرية الثلاثية متعددة المجالات "فريدوم إيدج"، التي أجرتها الدول الثلاث لأول مرة في يونيو، تساهم في حماية الحرية والسلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بما في ذلك شبه الجزيرة الكورية، واتفقوا على إجراء الجولة الثانية من التدريبات في أقرب وقت ممكن.
أعربت كوريا الجنوبية واليابان والولايات المتحدة عن مخاوفهم العميقة إزاء تعهد بيونغ يانغ وموسكو بتوسيع التعاون العسكري بينهما الذي أكدت عليه "معاهدة الشراكة الإستراتيجية الشاملة"، وانتقدوا كوريا الشمالية بسبب تنويع وسائل إطلاق الأسلحة النووية، وإطلاق واختبار العديد من الصواريخ الباليستية، والأنشطة الأخرى ذات الصلة، داعيين إلى الوقف الفوري للتصرفات التي تسبب عدم الاستقرار الأمني في شبه الجزيرة الكورية ومنطقة آسيا والمحيط الهادئ.
[email protected]