يأتي الصيف وتأتي معه بعض حكاياته ومواقفه الطريفة، التي قد تخفف وتلطف من حدة حرارته وجرأتها، تقلل من طغيان أشعة شمسه الحارقة، تقنن من جنونها السافر وسط عالم جائر تعمد استفزازها وتحفيزها على تجاوز عطاء طبيعتها التي فطرها الله عليها، حدث هذا كله بسبب سوء استخدام الإنسان لبيئته النظيفة وطبيعته -البِكر- التي منحه الله إياها، تجاهل كل ذلك وفشل في الحفاظ عليها، سعى لتغييرها بأنانيته تارة، وبجهله تارة أخرى.
هناك على هذا الشاطئ البعيد جلست تلك السيدة تحت مظلة تحتمي بها من لفحة شمس قد تصيبها، مكثت هناك وبجوارها تراصت أمتعة تخص أفراد أسرتها، جلست تراقب وجوهًا عديدة جاورتها، أحاطت بها على شاطئ هذا البحر فأخذتها حتى من نفسها، ارتسمت على كل وجه من تلك الوجوه حكايات عمر بأكملها، وبكافة تفاصيلها.
راحت الأصوات تتوالى وتتعالى مخترقة هدأة أذنيها، أصوات عديدة متضافرة، متنافرة، متداخلة تمر بعسر وصعوبة عبر مسامعها؛ أصوات صنعت من الصخب عالمًا آخر راح ينذرها بأن السكون الذي كانت تنشده ها هنا لم يكن إلا وهمًا غادرها وانصرف عنها، وهنا قررت منح الفرصة الكاملة لنفسها كي تعبر عما يدور من حولها وهى تتأمله من بين خيوط شرنقتها الداكنة، شرنقتها التي طالما لجأت إليها لتحيا بداخلها في عالمها الخاص، عالمها المفعم بالسلام، المغمور بالهدوء، بالسكينة والطمأنينة.
جلست وحيدة متنعمة بوحدتها التي رافقتها، تركت العنان لأفكارها، تتأمل الطبيعة الخلابة والساحرة من حولها، وتعود لتتأمل حكايات الوجوه الأخرى، تكتفي بمشاهدة إبداع الخالق منكرة هذا الصخب الذي شوه الصورة التي أمامها، وكلما ارتفعت الأصوات من حولها ازدادت رغبتها فى الانزواء والعزلة؛ تلك العزلة التي كانت تمقتها من قبل، فكم جلست بمفردها تناجيها بين جدران غرفتها، وكم سبحت في بحار ماضيها، تلوح بيديها لحاضرها ومستقبلها.
تعددت مواقف وحكايات من كانوا يجلسون إلى جوارها، فقامت على الفور بالتقاط خيط أول قصة لاحت لها، قصة ولدت عقبها أولى ملامح فصول قصتها الكاملة، بعد أن تملكتها رغبة عارمة في التعبير عما يدور بداخلها، صمت أذنيها عن كل من حولها، راحت تستدعي عزلتها الخاصة مرة أخرى، تستقبل حروفًا وكلمات ستشيد بها أركان قصتها التي أخذتها وغاصت بها تحت مياه هذا البحر الذي أسرها فخفف عنها بسحره وجماله بعضًا من ضجيج أرهقها وأصر على إزعاجها.
ها هو صوت ولحن شجي يشق طريقه إليها، أنغام وألحان عبرت أجواء صمتها، نغم وطرب مصاحبان لإحدى أغنيات الزمن الجميل التي كانت تحمل معها بعضًا من ذكرياتها؛ أتت إليها عبر الأثير من جهاز راديو أحضرته إحدى الأسر معها، تجد نفسها تلقي فيها بنفسها، بسمعها وكل كيانها، ترسو هناك حيث الرقي والإبداع الحقيقي، تنسجم مرددة معها في همس بعض كلماتها، سعيدة بها مستعذبة لحنها، تعود بذاكرتها معها إلى ما شاء الله لها أن تعود.
تنادي هذه الأم، الجالسة بجوارها، على أطفالها الذين حان وقت تناولهم للطعام، وهم في غفلة عنه، بعد أن سحرهم البحر وأنساهم كل شيء، فيقبلون عليها متثاقلين فقد أتوا تنفيذًا لأوامرها، يكتشف كل منهم أنه كان جائعًا، لكنه الجوع الذي نال منه أخفى نفسه بين أمواج البحر الدافئة المتلاحقة، يتناولون طعامهم سريعًا، ويعودون إلى حيث كانوا بسرعة أكبر.
هذان زوجان طاعنان في السن يجلسان سويًا على مقربة منها، يتحدثان معًا حديثًا وديًا، فليس لهما في العمر بقية تكفيهما لاستدعاء خلاف أو استقبال جدال، تقوم الزوجة على مهل لتضع لزوجها بعضًا من كريمات الوقاية من أشعة الشمس فوق جسده النحيل، الذي أحنته صروف الدهر وأحداثه الكبرى، تتحدث معه حديث أم حنون لطفلها، موجهة إليه نصائحها بعدم الابتعاد والانزلاق وراء دعوات البحر له بالدخول أكثر من الحد المسموح له به، فيهز رأسه معلنًا قبوله لحديثها وجميع نصائحها.
يخترق سمعها هذا الصوت القادم من تحت مظلة كانت على بعد أمتار منها، إنها كلمات صاروخية تصدر من أم ثلاثينية غاضبة، منفعلة بشكل كبير بعد أن دب خلاف شديد بينها وبين زوجها، خلاف راحت تتهمه فيه بضرورة تحمله مسئوليته الكاملة عن تدليله الزائد على الحد لأطفالهما، فهو ينفذ لهم رغباتهم بشكل مبالغ فيه من دون نقاش؛ مما أرهقها في طريقة تنشئتهم التي ترجوها وتعد إليها بعد أن أفسدهم التدليل على حد قولها.
علا صوتها، وكأنه دعوة لإعلان ثورتها، إنها تود أن يعزز الجميع موقفها، يؤيدها ويتبنى وجهة نظرها؛ فيتوسل الزوج لها راجيًا منها أن تخفض من صوتها مردفًا بقوله لها بأن الوقت والمكان ليسا مناسبين لحديث كهذا، وفجأة تنظر لمن حولها متفحصة تلك العيون التي تتابعها، وتلك الآذان التي تستمع إلى حديثها وتنتقد صراخها وانفعالها، تخجل وتصمت تمامًا، تخفض رأسها حياءً، بعد أن أطفأت به نيران غضبها واستعادت رشدها.