فى ظل التحولات الجيوسياسية والاقتصادية التى يشهدها العالم اليوم، باتت العلاقات بين الصين وإفريقيا محور اهتمام متزايداً من قبل المجتمع الدولي، فالمنتدى الصينى - الإفريقي، الذى أُسس قبل عقدين من الزمن، أصبح منصة حيوية لتعزيز التعاون بين الطرفين فى مجالات متعددة مثل الاقتصاد، التنمية، والبنية التحتية.
فى ظل هذا التوسع المتسارع فى العلاقات الصينية الإفريقية، شهد المنتدى الذى يعد أكبر اجتماع دبلوماسى، استضافته بكين منذ جائحة كوفيد 19، تعهدات اقتصادية ضخمة من قبل بكين للقارة الشابة، وصلت إلى نحو 51 مليار دولار على مدى 3 سنوات مقبلة، تُطرح تلك التعهدات عدة تساؤلات مهمة: إلى أى مدى يخدم هذا التعاون المصالح الإفريقية؟ هل تُعزز هذه الشراكات الإستراتيجية التنمية المستدامة فى القارة؟ وهل يمكن أن يؤدى ذلك إلى إعادة تشكيل موازين القوى فى إفريقيا؟
ونيابة عن الرئيس عبد الفتاح السيسي، ألقى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، كلمة خلال الجلسة رفيعة المستوى الثانية تحت عنوان “التحول الصناعى وتحديث الزراعة والتنمية الخضراء”، وذلك ضمن فعاليات قمة منتدى التعاون الصينى - الإفريقى بالعاصمة الصينية بكين، بحضور رفيع المستوى ضم الرئيس سيريل رامافوزا، رئيس دولة جنوب إفريقيا، ووانج هونينج، رئيس المجلس الوطنى للمؤتمر الاستشارى السياسى للشعب الصيني، وعددا من رؤساء الدول والحكومات المشاركة بالقمة.
وأكد الدكتور مصطفى مدبولي، أن مصر كانت أول دولة عربية وإفريقية تعترف بجمهورية الصين الشعبية وتُقيم علاقات دبلوماسية معها منذ عام 1956، وكان ذلك بمثابة انطلاقة لما يتجاوز نصف قرن من علاقات وثيقة مع دولة صديقة، تتشارك مع مصر ومع إفريقيا وشعوب العالم النامى فى تطلعاتها لتحقيق التنمية والازدهار والسلام.
ولفت النظر إلى أن القارة الإفريقية تتمتع بآفاق رَحْبة للتنمية، لكونها تمتلك أكبر معدلات للنمو السكانى فى العالم، حيث تجاوز عدد السكان 1.5 مليار نسمة هذا العام، ولذا تعدُ سوقاً ضخمة تُوفر فُرصًا واعدةً للتجارة والاستثمار، لاسيما بعد التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة القارية ودخولها حيز التنفيذ، وهو الإنجاز الضخم الذى تحقق خلال الرئاسة المصرية للاتحاد الإفريقى عام 2019، مضيفاً أن الشعوب الإفريقية كذلك شُعوبٌ شابة، ما يفرض على الحكومات الإفريقية العمل الدؤوب لكى تُوجه جهود هؤلاء الملايين من الشباب فى سبيل بناء أوطانهم.
وفى هذا الصدد، ثمن الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، مبادرة التنمية العالمية التى أطلقتها الصين عام2021، والتى شددت على هدف قيادة الدول النامية لعمليات التنمية الاقتصادية وفقاً لأولوياتها الوطنية، مع فتح الباب على مصراعيه للاستفادة من التجربة الصينية فى القضاء على الفقر وتحقيق قفزات عملاقة وسريعة على صعيد التنمية الشاملة والنهضة الاقتصادية، لافتاً النظر إلى أن مصر تتفق مع هذا الطرح، ومضيفاً أن رؤية مصر 2030 للتنمية المستدامة تتكامل مع أولويات “المبادرة العالمية للتنمية”، وكذا “مبادرة الحزام والطريق”.
كما أكد رئيس الوزراء إشادة مصر بالمبادرات العشر التى أعلن عنها الرئيس “شى جين بينج”، رئيس جمهورية الصين الشعبية، فى كلمته خلال الجلسة الافتتاحية للقمة، تجاه تعزيز العلاقات الصينية ـ الإفريقية فى كل المجالات.
القاهرة قلب القارة
فى البداية، قال الدكتور عمر البستنجي، الباحث المتخصص فى العلاقات الاقتصادية الدولية، إن الصين تعى أهمية الدور المصرى فى إنجاح المشروع الاقتصادى الصينى فى إفريقيا، وهذا يعود لعدة أسباب جعلت من القاهرة كلمة السر لنجاح أى مشروع اقتصادى داخل إفريقيا، موضحاً الأسباب إلى تمتلكها مصر منها، أولاً موقعها الجغرافى المتميز الذى يربط القارة الإفريقية بقارتى آسيا وأوروبا، إضافة إلى أن مصر تعتبر حلقة الوصل فى طريق الحرير الصيني، وهذا يزيد من اهتمام الصين فى بناء علاقات قوية مع الدولة المصرية.
وأضاف البستنجي، أن الدبلوماسية المصرية من الدبلوماسيات الأكثر تميزا على مستوى العالم، حيث نجحت القيادة المصرية وعلى رأسها الرئيس عبدالفتاح السيسي، فى تجنيب القاهرة تأثير الكثير من الصراعات الإقليمية والقارية مع المحافظة على هيبة مصر ودورها المحورى فى محيطها الإقليمى والقارى كدولة راعية للسلام وضامنة له، وهذا بدوره جعل الدولة المصرية على مسافة واحدة من الجميع مما أكسبها ثقة واحترام جميع دول العالم، وعلى الصعيد الإفريقى تحظى مصر بالترحيب والقبول من جميع الدول الإفريقية، والصين تدرك تماما أهمية الاعتماد على الدبلوماسية المصرية فى تسهيل توسيع استثماراتها فى إفريقيا.
وأوضح الباحث المتخصص فى العلاقات الاقتصادية الدولية، أن امتلاك مصر للكوادر الأكاديمية والمهنية المدربة على أعلى المستويات، الأمر الذى يساعد الصين فى الاعتماد على العنصر البشرى المصرى فى تطوير البنى التحتية وتحقيق تنمية اقتصادية حقيقية فى إفريقيا، مشيراً إلى أن مصر تمتاز بقدراتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية على الصعيد الاقليمى والقارى والدولي، ولها سجل قوى فى مكافحة الإرهاب والقضاء عليه، وهذه القدرات تؤهل مصر بأن تكون الشريك الأبرز للصين فى القارة السمراء، للتعامل مع الملف الأكثر تعقيدا والذى يهدد جميع الاستثمارات داخل إفريقيا وهو الملف الأمنى ومكافحة الإرهاب.
وأشار إلى أنه فى الوقت الذى كانت فيه إفريقيا تتعرض للتهميش والتجاهل من المجتمع الدولي، كانت مصر تعمل على إنشاء مراكز الأبحاث المتخصصة فى الشأن الإفريقي، حتى أصبح الأرشيف المصرى يزخر بكم لا محدود من الدراسات والأبحاث والمؤلفات المختصة بالشأن الإفريقي، ومع توجه أنظار العالم نحو القارة الإفريقية للاستثمار فى ثرواتها بات الرصيد البحثى المصرى محط اهتمام الكثير من الدول الراغبة فى الاستثمار فى إفريقيا وعلى رأسها الصين.
فى الختام، أكد البستنجى أن مصر تظل نقطة التقاء مهمة بين إفريقيا وأى شريك خارجي، بفضل حرصها على تحقيق مصالح مشتركة تحقق الأهداف الإستراتيجية للقارة.
تنمية إفريقيا
من جانب آخر، أكد الدكتور محمود خليفة، مدرس العلوم السياسية بمعاهد الفراعنة ، وعضو مجلس إدارة مركز المعلومات والاستشارات الإفريقية بجامعة القاهرة، بأن القمة الثامنة لمنتدى التعاون الصينى الإفريقى والتى عقدت فى الفترة من 4 إلى 6 سبتمبر 2024 فى العاصمة الصينية “بكين”، شهدت حضور قادة الصين و53 دولة إفريقية. وأن تلك القمة تكللت بمجموعة من المنجزات للدول الإفريقية، حيث أكدت خطة عمل القمة التزام الصين بدعم التصنيع والتحديث الزراعى والنمو الاقتصادى فى إفريقيا، كما شملت تعهدات الصين الرئيسية التى تم الإعلان عنها خلال القمة، بتقديم دعم مالى على مدار ثلاث سنوات بمقدار 360 مليار يوان صينى - أى ما يعادل 51 مليار دولار أمريكى - فضلًا عن ضخ استثمارات فى مجالات التجارة وسلاسل القيمة المحلية ومشاريع البنية التحتية.
ولفت الدكتور محمود خليفة الانتباه إلى أن الصين تعد أكبر ممول للدول الإفريقية خلال العقد الأخير، حيث قدمت الحكومة الصينية أكثر من 120 مليار دولار من القروض، عن طريق مبادرة “الحزام والطريق”، لبناء محطات الطاقة الكهرومائية والطرق وخطوط السكك الحديد عبر كل أنحاء القارة الإفريقية. وفى هذا الشأن فإن تعهد الصين خلال القمة الثامنة لمنتدى التعاون الصينى الإفريقى بمبلغ 51 مليار دولار أمريكى على مدار ثلاث سنوات أى بمتوسط نحو 17 مليار دولار أمريكى سنويًّا يعد تراجعًا من المستوى القياسى البالغ 28.8 مليار دولار عام 2016 والذى جعل الصين أكبر ممول باتفاق ثنائى الأطراف فى العالم للقارة السمراء.
وأوضح عضو مجلس إدارة مركز المعلومات والاستشارات الإفريقية بجامعة القاهرة أن هذا الانخفاض فى حجم التمويل الحكومى المقدم من الصين يرجع إلى سببين رئيسيين، السبب الأول، يتمثل فى التوقعات بتباطؤ الاقتصادى الصينى خلال السنوات المقبلة، حيث حذّر صندوق النقد الدولى من تباطؤ النمو فى الصين إلى 3.3% بحلول عام 2029، بسبب ارتفاع معدلات الشيخوخة وتباطؤ التوسع فى الإنتاجية، أما السبب الثانى فيرجع إلى تبنى الحكومة الصينية نهجًا جديدًا يقوم على إفساح المجال أمام البنوك التجارية لتمويل المشاريع الإفريقية، فخلال السنوات الماضية قدمت البنوك الصينية التجارية أيضًا قروضًا، لكن يُتوقع أن يميل الاتجاه بصورة أكبر نحو هذه القروض المدرة للأرباح خلال الأعوام المقبلة.
وشدد الدكتور محمود خليفة على ضرورة أن تكون العلاقات بين الصين وإفريقيا علاقات متوازنة ومتكافئة تحقق المصلحة للطرفين، دون الدخول فى حالة الاستقطاب الراهن التى تشهدها الساحة العالمية، لأن ذلك من شأنه تنفير الشركاء الغربيين التقليديين للقارة السمراء، مما قد يؤدي إلى إضعاف العلاقات الدبلوماسية وتعقيد موقف إفريقيا فى أطر التجارة والحوكمة العالمية.
كما شدد على أهمية إعادة النظر فى تجارة إفريقيا مع الصين حيث أن الاقتصادات الإفريقية فى المقام الأول تعتمد على تصدير المواد الخام إلى الصين، في حين تستود السلع المصنعة، وهذا يشكل خطراً على جهود التنويع الاقتصادي فى إفريقيا، حيث أن الاعتماد على صادرات السلع الأساسية يجعل الاقتصادات الإفريقية عرضة لتقلب الأسعار.
وأكد الدكتور محمود خليفة بأنه يتعين على الصين العمل على نقل التكنولوجيا والخبرات إلى الدول الإفريقية، ومساعدتها فى بناء قاعدة تصنيعية محلية تساعد فى تنويع اقتصادتها، وبالفعل خلال القمة الثامنة لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي، تعهدت الصين بمنح المنتجات من الدول الأقل نموا فى إفريقيا إمكانية الوصول المعفاة من الرسوم الجمركية، وذلك من أجل تعزيز التعاون التجاري والصناعي فى إطار مبادرة الحزام والطريق.