مع حلول شهر سبتمبر تكون قد مر واحد وثلاثون سنة على رحيل المفكر زكى نجيب محمود..
إننى مَدين لهذا الرجل وسأظل كذلك.. فكرياً وثقافياً وصحفياً.. وهو القمة الشامخة فى الأدب والفلسفة والفكر، وهو واحد من أساطين الثقافة المصرية والعربية وقادة الفكر المعدودين على الأصابع.. تميزت فلسفته بعمق التفكير ورصانة التحليل وقوة النقد وروعة البيان وبلاغة العبارة.. لهذا وصفه العقاد كما وصف ياقوت الحموي أبا حيان التوحيدي بأنه "فيسلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة".. ولابد للشباب من هذا الجيل أن يتعرفوا على فكر هذا الرجل العبقرى صاحب البصيرة والفكر المجدد..
قليل من كثير..
عاش زكى نجيب محمود عمره فى فترة من أخصب الفترات؛ فقد وُلد فى العهد الملكى عام 1905 وانتقل إلى لندن للحصول على الدكتوراه فى الفلسفة عام 1947 وتم تعيينه مستشاراً ثقافياً للسفارة المصرية فى واشنطن قبل أن يعود لمصر للعمل بالتدريس فى قسم الفلسفة بجامعة القاهرة ثم بجامعة الكويت لمدة خمس سنوات، وامتد عطاؤه على مدار 88 عاماً فشهد العهد الناصرى والساداتى حتى توفى فى عهد مبارك فى 8 سبتمبر عام 1993.
تميز زكى نجيب محمود بقدرته على المزج بين الأدب والفلسفة فى مزيج ساحر فريد، إذ نجح فى تقديم أصعب الأفكار وأعسرها على الهضم العقلى فى ثوب أدبي مبهر وبأسلوب بليغ يحلل ألغاز الفلسفة إلى عواملها الأولية ويفكك طلاسمها الاصطلاحية إلى عبارات سهلة بسيطة تناسب قراء الصحف اليومية..
لهذا تعددت أعماله الفكرية ولاقت كتبه الفلسفية رواجاً كبيراً وإقبالاً من المتخصصين والمثقفين ورجال الفكر والأدب.
وكان من بين أعماله الفلسفية المهمة (حياة الفكر فى العالم الجديد)، و(خرافة الميتافيزيقا) و(الشرق الفنان) و(المنطق الوضعى) و(نظرية المعرفة) وغيرها من كتب الفلسفة والمنطق.. كما ترجم عدداً من الكتب الشائقة، وله عدد من الإصدارات الأدبية مثل (قصة نفس) و(جنة العبيط) و(الكوميديا الأرضية) وله كتاب فى السيرة الذاتية هو (حصاد السنين).. بالإضافة لعدد من الكتب الفكرية المتنوعة مثل (المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكرى) و(ثقافتنا فى مواجهة العصر) و(تجديد الفكر العربي).. إلخ.
وكنتيجة لإسهاماته المتواصلة وعطائه الوفير فى مجال الفكر والفلسفة والأدب حصل على جائزة الدولة التقديرية عرفانا بدوره الكبير فى الثقافة المصرية والفكر العربي.
الفكرة.. كيف تصنع مجتمعاً جديداً؟
العالم بأكمله بمعسكريه الشرقي والغربي قائم على فكر فلسفى للاقتصاد والسياسة! الأول هو فكر كارل ماركس الألمانى، والثانى هو فكر آدم سميث الأسكتلندى صاحب الكتاب الشهير "ثروة الأمم".
لكننا فى عالمنا العربي لا نقدّر أصحاب الفكر المحليين، ونفضل على أفكارهم أفكاراً نستوردها ممن لا يفهمون واقعنا ولا يتكلمون بألسنتنا! ربما لهذا السبب ذهبت دعوات زكى نجيب محمود تجديد الفكر العربي وأمثالها أدراج الرياح!
الدكتور زكى صاحب مشروع متكامل واضح المعالم.. جسَّد فى كتاباته قاعدة ابن رشد: "كلما سهلت العبارة قوى التلقى".. آمن بضرورة مواجهة أزمات الحياة بالجديد والمبتكر من الأفكار والرؤى، وأن الله أراد للإنسان أن ينظر دائماً للأمام، فخلق له العينين فى مقدم رأسه لا خلفها! اهتمت فلسفاته بتقديم العقل على الوجدان، وأن العقل يفضى إلى اليقين بينما العاطفة تقود إلى ضباب أو ضلال.. وللدكتور زكى نظرة تحليلية يفكك بها مشكلاتنا المجتمعية المزمنة ويوضح من خلالها معنى الفكر الثورى، وكيف أن الثورة الفكرية لها شرط أساسي هو الانتقال من سلطان الحفظ والتلقين والترديد والاجترار إلى سلطان العقل المتسلح بأدوات المنطق ضد أي فكر مغلق للوصول للحرية الفكرية، حرية مشروطة بالمسئولية تحقق للإنسان إنسانيته وتسمح له بأداء دوره الحضاري ككائن مكلف حر ومسئول.
تحدث زكى نجيب محمود عما دعاه "ظاهرة الاحتباس الحضارى"! حيث الدعوة إلى الكسل العقلى والاكتفاء بالفكر المستورد والانحدار لمزالق التفاهة ومظاهر التبعية الثقافية.. لهذا اعتبر أن كل دعوة إلى ترك الغير يفكر عنا ويقرر لنا ما يشاء هو إهدار لإنسانية الإنسان وسفك للإبداع وحض على الكسل العقلى. إنها الحرية الفكرية التي لا نكاد نجد لها أثرا في مجتمعاتنا العربية في زمن الاحتباس الحضاري وعصر التفاهة، وهذا هو السبب فى تخلفنا عن اللحاق بركب التطور عالمياً وإقليمياً.
خطورة غياب النظرة الاستشرافية
يرى الدكتور زكى أن سبب تخلفنا هو الحجْر على العقول وغياب الفكر الناقد والتنكر لمنطق العلم والعمل والابتعاد عن الواقعية في الطرح.. مثل هذا الانحدار الحضاري أنتج فكرا سطحيا وثقافة استهلاكية هى مزيج من الأوهام والكلام الفارغ، ثقافة تروج للتفاهة وتتغذى على الخرافة.
ويعيدنا الدكتور زكى إلى قصة حدثت فى عشرينيات القرن الماضى حين اضطلع ناشر في إنجلترا بمشروع طموح فطلب من مائة عالم وباحث وأديب، أن يتعاونوا على إخراج عدة كتب كلٌّ في فرع تخصصه تُصوِّر ما سوف تكون عليه حياة الناس بصفةٍ عامة، وفي إنجلترا بصفةٍ خاصة، بعد خمسين عامًا من ذلك التاريخ، وكان في ظنه أن تقديم هذه الصورة المستقبلية تتيح لكل من يهمه أمر أن يتدبره قبل وقوعه.. وأصبح لمثل هذا التوجه مؤسسات متخصصة فى أروقة الدول المتقدمة بعد ذلك، بحيث باتت النظرة الاستشرافية القائمة على المعلومات والبيانات الإحصائية والتحليل النقدى جزءاً من مكونات الدول المتقدمة وأساسها الفكرى.
إن عدم القدرة على استشراف المستقبل أثمر حالة من التخلف والانفصام داخل المجتمعات العربية! وهي حالة مرضية ترى فيها الإنسان العربي يقدس الماضي ويحتقر القيم والمبادئ ويتنكر لأسباب التفوق في الحاضر ويعزي نفسه ببطولات السلف، هكذا يظل يتحرك في زوايا ضيقة ومحددة بفكر سطحي خرافي لا يصنع مستقبلاً ولا يبنى واقعاً!
والدليل على صدق رؤية زكى نجيب محمود أننا ما زلنا كمجتمع عربي نعانى من نفس العيوب والآفات والمشاكل منذ ذلك الحين وحتى اليوم.. نفس الأزمات الأخلاقية والانسياق للغرب والتبعية الفكرية والثقافية والتراجع الاقتصادى والانقسام المجتمعى وغيرها من آفات كبرى وصغرى مستمرة وتتفاقم!
الأساس الأول للسياسة
قيل إن تشرشل وقف يوماً أمام قبر أحد زملائه القدامى، فوجد مكتوباً على قبره "هنا يرقد السياسي البارع والرجل الصادق" فتعجب وقال: "كيف دفنوا شخصين معاً فى مقبرة؟!".
هكذا مفهوم السياسة عند بعض القادة والزعماء أنها بلا أخلاق.. وهو يختلف اختلافاً تاماً عن السياسة المصرية الراهنة المبنية كلها لحماً وعظماً على أخلاق الكرام.. فقال النبي الكريم عن نفسه: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقال عنه الحق: "وإنك لعلى خلق عظيم" كأنها أهم مناقبه وأجل صفاته عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم..
يرى زكى نجيب محمود أن الأخلاق هى الأساس الأول للسياسة، وأن غيابها يطمس بصيرة العدالة الاجتماعية ويمحو أسباب السعادة وأساليب الارتقاء، ويؤدى بالتالى إلى التردى وانعدام الطموح للكمال والرقى.
إن السياسة هي في صميمها فرعٌ من الأخلاق؛ لأنها لا تريد شيئًا أكثر من أن يتحقق الخير للدولة في مجموعها، وأن هذا الخير العام لا يمكن فهمه فهمًا واضحًا، إلا أن يكون حاصل جمع الخير الذي يصيبه الأفراد، وإنه لمن الضلال والتضليل أن يقول قائل إن الأفراد قد تشقى في سبيل المجموع، كأنما هذا المجموع عفريت من الجن نسمع به ولا نراه"!
كما يرى زكى أن هناك ركائز أساسية لبناء مجتمع راقٍ جديد فكراً وعقلاً وأداءً.. أولها مبدأ الوحدة والتخلص من آفات الانقسام المجتمعى والعرقى والحزبى. ثم هناك مبدأ المساواة.. النابع من حق الإنسان فى الحياة والسكن والغذاء والصحة والتعليم، وأن هذه الحاجات الأساسية توفرها الدول بلا تمييز بين الفئات والطبقات المختلفة.. وأن السعى الفردى والتميز الإنسانى والإبداع الفكرى له دور فى وضع الإنسان فى مكانة أعلى من أجل تشجيع التميز والتفرد والتفوق والحض على التنافس بين البشر من أجل شيوع النفع المجتمعى..
إن المجتمع الجديد لابد أن تكون قاطرته هي التعليم. مطلوب إصلاح تربوي شامل وإعادة التفكير في المقررات والمناهج، واشراك طلاب العلوم وطلاب الآداب جميعًا في إحدى المواد الفلسفية، وهي المادة المتصلة بمنطق التفكير العلمي والتحليل المنطقى القائم على المعلومات.
الجامعة باعتبارها رأس المنظومة التعليمية يراها الدكتور زكى الأولى بالإصلاح والتطوير قائلاً: فماذا تكون الجامعة إذا لم تكن مؤسسة أقيمت لتضطلع بحراسة العلوم والفنون، بمعانيهما التي تقررها لهما الحضارة البشرية، كما يشهد لها التاريخ، لا كما تتوهمه شطحات الحالمين؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تكن هي الحرم الذي تُقدَّس في رحابه روح البحث والكشف، ومغامرات التجربة والتأمل؟ ماذا تكون الجامعة إذا لم تجعل من نفسها حامية تذود عن دولة العقل، حتى لا يعتدي عليها أعداؤها بهدم حصونها، من الداخل أو من الخارج، وحتى لا يأخذ الضعف من رجالها، فيستسلمون لهجمات المعتدين؟
معنى هذا أن الكلمة هى الأساس، وأن الفكر هو القائد المتحدث بلسان العقل.. وأن المفكرين والكتاب والفنانين والمثقفين ورواد الإعلام والأدب والفلسفة هم فى الحقيقة رواد التغيير المنشود لأية أمة ناهضة.. وأن الفكرة النظرية تأتى قبل الشروع فى تنفيذها على أرض الواقع.. وأن العودة إلى رموز الفكر من أمثال زكى نجيب محمود ليست من باب الارتداد للماضى بقدر ما هى بوصلة نحو المستقبل، وحبل عصبي يصل الأمس باليوم بالغد.. لهذا وجب الاهتمام بالترجمة لأعلامنا من العظماء والعباقرة والأفذاذ أمثال دكتور زكى نجيب محمود المفكر والفيلسوف المتفرد.
[email protected]