وعد الرئيس الصيني شي جين بينج بفتح اقتصاد بلاده الضخم أمام الدول الناشئة في العالم، وتعهد خلال منتدى التعاون الصيني الأفريقي (فوكاك) الذي عقد ببكين في الخامس من سبتمبر الجاري بإدخال نظام التعريفات الجمركية الصفرية على البلدان الأقل نموا في العالم.
موضوعات مقترحة
ويبدو أن هذه الخطوة، التي تم الكشف عنها أمام العشرات من الزعماء في قمة الصين وأفريقيا في بكين، استهدفت – وفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية - إبراز التباين بين الصين والولايات المتحدة، التي تخلت إلى حد كبير عن دورها كمدافع عن التجارة الحرة، والانجراف نحو الحمائية.
وذكرت المجلة أن وعد "شي" كان يهدف أيضا إلى مواجهة الانزعاج المتزايد بين الدول الناشئة من أن التحولات الكبرى في تدفقات التجارة العالمية تهدد بإغراق جزء كبير من الجنوب العالمي بالسلع الصينية الرخيصة، وتقويض التقدم الهش الذي أحرزته هذه الدول في التنمية الاقتصادية.
وأشارت إلى أنه بينما تحاول بكين تقييد الاستثمارات الضخمة في العقارات والبنية الأساسية، فإنها تضخ في المقابل مبالغ ضخمة في التصنيع المتقدم أو ما تسميه "قوى إنتاجية جديدة عالية الجودة". ولكن في الوقت نفسه، لم يكن رد الغرب على هذه التوجه سوى الإصرار على إدانة الصين، حيث تواجه الصين اتهامات بالإنتاج المفرط وإغراق الأسواق العالمية بالسلع الفائضة.
وبناء على ذلك، يتسابق القادة في مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية في فرض تعريفات جمركية على سلع مثل المركبات الكهربائية والألواح الشمسية. ومع تزايد الحواجز في العالم الغني، يخشى كثيرون في الأسواق الناشئة أن يتجه الإنتاج الصيني المفرط إلى بلادهم بدلا من الدول الغنية وبالتالي، بدأت هذه الدول في اللجوء إلى تدابير حمائية خاصة بها، وهو ما يخلق معضلة استراتيجية كبرى للصين، حيث تهدد سياساتها المصممة لإنقاذ اقتصاد بكين المحلي بتقويض علاقاتها مع الجنوب العالمي.
ولفتت "فورين بوليسي" إلى أنه في ضوء ما سبق، اتخذت دول ناشئة تشعر بالقلق إزاء غمر الصين الأسواق العالمية بالسلع الرخيصة، إجراءات حمائية. ففي يوليو الماضي، فرضت إندونيسيا رسوما جمركية على المنسوجات وغيرها من السلع الصينية، مستشهدة بالمنافسة غير العادلة من الصين. وقبل بضعة أشهر، فرضت شيلي تعريفات جمركية لمكافحة الإغراق على الصلب الصيني. كما اتخذت المكسيك والبرازيل تدابير مماثلة، فيما تستعد دول أخرى لذلك، حيث أنشأت تايلاند مؤخرا هيئة حكومية جديدة لفحص فرض قيود على الواردات الصينية، فيما فرضت الهند مؤخرا سلسلة من تدابير مكافحة الإغراق وفتحت مجموعة من التحقيقات الإضافية.
واعتبرت المجلة الأمريكية، أن ذلك يمثل تحولا كبيرا، خاصة وأن الأسواق الناشئة من جنوب شرق آسيا إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية كانت تنظر إلى الصين منذ فترة طويلة باعتبارها شريكا اقتصاديا أساسيا، ومصدرا للاستثمار، لاسيما من خلال برنامج البنية الأساسية الضخم في إطار مبادرة "الحزام والطريق".
وترى المجلة أنه للوهلة الأولى، قد تبدو التدابير الجديدة الموجهة ضد الواردات الصينية وكأنها حالات فردية من الحماية التقليدية، يحاول من خلالها عدد قليل من المنتجين المحليين غير القادرين على المنافسة إقناع حكومات بلادهم بحمايتهم من المنافسة الأجنبية. لكن الحجم الهائل ونطاق قدرات الإنتاج الصينية يعني أن هذه القيود المعادية للصين أصبحت مختلفة. ففي السابق، كانت اتهامات الإغراق ضد الصين تميل إلى التركيز على صناعات فردية مثل الصلب. بينما الآن أصبحت هذه الصناعات أكثر اتساعا، حيث تغطي صادرات الصين المزدهرة مجموعة متنوعة من المنتجات، من المركبات الكهربائية وتقنيات التحول الأخضر وصولا إلى مدخلات التصنيع التقليدية والسلع الوسيطة. كما ينمو حجم هذه الصادرات بصورة ملحوظة، إذ قفز إلى 309 مليارات دولار في أغسطس الماضي فقط، وهو أعلى مستوى شهري في عامين.
وفي هذا الصدد، يؤكد كبير المستشارين الاقتصاديين في الهند، أنانثا ناجيسواران، أن "بعض السلع الصينية رخيصة للغاية بحيث لا يمكن لأي قدر من التعريفات الجمركية أن يقلل من قدرتها التنافسية في الأسعار".
وأوضحت المجلة أن الأسواق الناشئة تواجه مجموعة مختلفة من الضغوط. فبعضها، مثل شيلي، يشعر بالقلق إزاء إغراق الأسواق بمنتجات مثل الصلب، والبعض الآخر، مثل إندونيسيا، يشعر بقلق أكبر إزاء ما يعتبره منافسة غير عادلة ناتجة عن الدعم والإعانات الصينية أو ضغوط مرتبطة بمحاولات الدول الغربية الانفصال عن الصين.
وفي كلتا الحالتين، من المرجح أن تتخذ المزيد من الدول الناشئة إجراءات حمائية مع تزايد الحواجز ضد الصين في الغرب الصناعي، وهو ما سيتجلى بشكل خاص إذا فاز الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب في الانتخابات في نوفمبر، وقرر حينها فرض تعريفات جمركية أعلى، وعد بها، على الصين. وفي هذه الحالة، سوف يضطر المصدرون الصينيون المحرومون من الأسواق الأكثر ثراء إلى تحويل انتباههم إلى أماكن أخرى (الأسواق الناشئة).
ونوهت المجلة الأمريكية إلى أن الاحتمالات سالفة الذكر تشكل تحديا خاصا للاقتصادات المعتمدة على التجارة في آسيا، والتي سعت تقليديا إلى التكامل الوثيق مع الصين.
وبينت المجلة أن القوى المصدرة مثل ماليزيا وتايلاند تواجه معضلة تتمثل في اعتمادها من ناحية على الصين للحصول على السلع التي تحافظ على تشغيل مصانعها، ولكن من ناحية أخرى فإن قواعد التصنيع المحلية الخاصة بها ستكون عرضة للخطر مع انتقال الصين إلى التصنيع الأعلى جودة (الذي تقوم به هذه الدول).
كما أنه في حين أن البلدان الأكثر فقرا في أفريقيا لديها عددا قليلا نسبيا من القطاعات الصناعية التي تتنافس مع الصين، إلا أن الشركات الماليزية والتايلاندية متخصصة في نفس أنواع سلاسل التوريد للتصنيع المتقدم التي تعمل الصين الآن على توسيعها. ونتيجة لهذا، فإن آسيا ستكون المنطقة الأكثر "عرضة للخطر من التأثيرات غير المباشرة للرسوم الجمركية المفروضة في بقية العالم".
وبالنسبة للقادة السياسيين في الغرب، فإن ارتفاع الصادرات الصينية –وفقا لفورين بوليسي- يخلق فرصة جيوسياسية محتملة لدولهم، خاصة وأن كثيرين منهم يشعرون بالقلق إزاء فقدان الغرب الاتصال بالجنوب العالمي، مع ابتعاد الطرفين عن بعضهما البعض بسبب وجهات نظر متباينة بشأن التحديات بما في ذلك غزو روسيا لأوكرانيا والحرب بين إسرائيل وحماس والواقع أن معالجة تحدي زيادة الصادرات الصينية، والتي ستؤثر بشكل متزايد على الغرب والجنوب العالمي، تخلق إمكانية بناء أجندة مشتركة بين الغرب والجنوب العالمي.
وبالنسبة للصين، فإن الرئيس شي جين بينج يواجه خيارا صعبا، وهو إما أن تسعى بكين إلى كسب المزيد من الأصدقاء في العالم النامي والعمل كزعيمة للجنوب العالمي، أو أن تواصل تنفيذ خطة اقتصادية تركز بشكل كبير على نموذج النمو القائم على التصدير في السلع المصنعة المتقدمة، ولكن تحقيق الأمرين معا سيكون صعبا للغاية، ما يفرض عليها الاختيار بينهما.