إفريقيا تحمل المستقبل الاقتصادي العالمي، يتسابق إليها الاقتصادات المتقدمة والناشئة على السواء للاستفادة من مواردها الطبيعية والبشرية الهائلة. فالقارة السمراء تحتوي على 90% من إجمالي إمدادات العالم من البلاتين والكوبالت، ونصف إمدادات الذهب، وثلثي المنجنيز في العالم.
وتزخر أيضًا بثلث احتياطي العالم من اليوارنيوم، وحوالي 75% من الكولتان، وهو معدن مهم يستخدم في تصنيع الأجهزة الإلكترونية، بما في ذلك الهواتف المحمولة.
كما أنها تمتلك إمكانات زراعية هائلة تؤهلها لأن تصبح سلة غذاء العالم. فضلاً عن الموارد المائية اللازمة للزارعة، حيث يجرى بها 13 نهرًا، وبها مخزونات كبيرة لمياه الأمطار والمياه الجوفية.
بجانب ثرواتها المعدنية والطبيعية، تشهد القارة الإفريقية معدلات متسارعة للنمو السكاني إذ من المتوقع وصول عدد سكانها إلى 2.5 مليار بحلول عام 2050 يمثلون نحو 40% من سكان العالم.
شراكة اقتصادية
ولقد أدركت الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، الأهمية الإستراتيجية للقارة السمراء، خلال مسيرتها التنموية الحديثة، وبروز بكين كلاعب رئيسي على الساحة السياسية والاقتصادية الدولية.
واتسمت العلاقات الصينية الإفريقية بالعمق والاتساع وتعدد قطاعات التعاون ومستويات العلاقة التي تميزت بهيكلية متينة، وتطورت على مدار العقدين الماضيين، لتصبح شراكة اقتصادية، وباتت نموذجًا للتعاون بين بلدان الجنوب.
على مدى السنوات العشرين الماضية، أصبحت الصين أكبر شريك تجاري ثنائي لإفريقيا. ووفقًا لصندوق النقد الدولي، فإن حوالي 20% من صادرات القارة تذهب الآن إلى الصين ونحو 16% من واردات إفريقيا تأتي من الصين.
وتشير بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أن إجمالي حجم التجارة البينية بلغ 282 مليار دولار خلال عام 2023. وتمثل السلع الأساسية - المعادن والمنتجات المعدنية والوقود - حوالي ثلاثة أخماس صادرات إفريقيا إلى الصين، بينما تستورد عادة السلع المصنعة والإلكترونيات والآلات الصينية.
وعلاوة على ذلك، زاد الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني بشكل كبير على مدى العقدين الماضيين. ففي عام 2003، بلغ تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر السنوي من الصين إلى إفريقيا نحو 75 مليون دولار زاد بشكل تراكمي إلى 40 مليار دولار بنهاية العام الفائت.
تمويل البنية الأساسية
وفي الوقت نفسه، برزت الصين أيضا باعتبارها أكبر دائن ثنائي لإفريقيا، حيث وفرت للدول الإفريقية مصدرًا جديدًا لتمويل البنية الأساسية والتعدين والطاقة.
خلال الـ 20 عامًا الماضية قدمت الصين قروضًا مدعومة من الحكومة تزيد على 120 مليار دولار لبناء محطات طاقة كهرومائية، وطرقًا، وخطوط سكك حديدية في جميع أنحاء القارة.
رغم المزاعم بأن الصين أوقعت بعض الدول الإفريقية في فخ الديون، فإن هذه القروض الصينية "غير مسيسة" ولا تحتوي على شروط تتعلق بالبيئة أو حقوق الإنسان، أو غيرها من الشروط الاقتصادية التي عادة ما تفرضها المنظمات والجهات الدولية المانحة للقروض، وهو ما يلاقي استحسان حكومات إفريقية.
بل عمدت الحكومة الصينية في الفترة الأخيرة على تبني نهجًا جديدًا لمنح القروض يرتكز على الشراكات بين القطاعين العام والخاص، إذ تسمح بكين للحكومات الإفريقية التي تعاني من نقص السيولة بالاستمرار في الاقتراض دون زيادة ديونها السيادية المعلنة رسميًا.
سلاسل القيمة
وأفسحت الشراكة الصينية الإفريقية المجال أمام القطاع الخاص للعب دور أكبر في تعزيز التعاون التجاري والاستثمار في إفريقيا.
فمن بين 3000 شركة صينية تستثمر في إفريقيا، نحو 70% منها شركات تابعة للقطاع الخاص.
ومن المتوقع أن تعمل منطقة التجارة الحرة الإفريقية على تسريع هذا الاتجاه من خلال تعزيز نمو سلاسل القيمة الإقليمية، مما يتيح للشركات الصينية الوصول إلى سوق إفريقية موحدة أكبر.
وقد تحققت نتيجة مماثلة مع السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي - حيث أصبحت الصين الآن أكبر شريك استيراد خارجي للاتحاد الأوروبي .
تم إطلاق اتفاقية التجارة الحرة الإفريقية رسميًا عام 2021، وهي تخلق سوقًا واحدة من المتوقع أن تنمو إلى 1.7 مليار شخص و6.7 تريليون دولار في إنفاق المستهلكين والشركات بحلول عام 2030.
ستزيد اتفاقية التجارة التفضيلية من الصادرات الدولية والتجارة داخل إفريقيا، خاصة في الزراعة والمعادن ذات التكنولوجيا الخضراء، وسيفتح هذا فرصًا للشركات المحلية والعالمية لدخول الأسواق الجديدة والتوسع فيها عبر القارة.
منتدى التعاون
وفي تصوري أن العلاقات الثنائية تدخل مرحلة جديدة من زخم النمو بفضل فاعلية دور منتدى التعاون الصيني الإفريقي (FOCAC)، الذي عُقد في بكين الجمعة الماضي بحضور مسئولين من 54 دولة إفريقية. وخلال المنتدى تعهدت الحكومة الصينية بتقديم 50 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة، أكثر من نصف هذا المبلغ عبارة عن قروض، و11 مليار دولار مساعدات متنوعة، بالإضافة إلى 10 مليارات دولار تستخدم لتشجيع الشركات الصينية على الاستثمار في إفريقيا.
كما وعدت بتوفير ما لا يقل عن مليون فرصة عمل في إفريقيا من خلال تنفيذ عشر خطط عمل للشراكة في مجال الطاقة الخضراء، وكذلك دعم أهداف الطاقة النووية في القارة السمراء لمعالجة عجز الكهرباء، وإنشاء مشروعات في مجالات البنى التحتية والتجارة، وإطلاق شبكة صينية إفريقية برية وبحرية.
وتأسس هذا المنتدى عام 2000 كمنصة متعددة الأطراف للحوار والتعاون بين الصين والدول الإفريقية. وتعقد هذه القمة بشكل دوري لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية والثقافية، وتوفير إطار مُنَظّم لمناقشة مجموعة واسعة من القضايا المشتركة، مثل: التجارة، والاستثمار، وتطوير البنية التحتية، ونقل التكنولوجيا، وبناء القدرات.
الحزام والطريق
بجانب منتدى التعاون الصيني الإفريقي، برزت مبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها الحكومة الصينية عام 2013 كمنصة مهمة لتعزيز تعاونها مع القارة الإفريقية.
وتعطي خطة التعاون الأولوية لتحسين ربط البنية الأساسية في مختلف أنحاء إفريقيا لتسهيل التجارة والتكامل الاقتصادي. كما تهدف إلى تعزيز تيسير التجارة والتكامل المالي وتنسيق السياسات بين الصين والدول الإفريقية.
وفي منتدى مبادرة الحزام والطريق في أكتوبر2023، قالت الحكومة الصينية إن المرحلة التالية من مبادرة الحزام والطريق ستكون "صغيرة وذكية"، مع التركيز المتزايد على التنمية الخضراء والاقتصاد الرقمي.
وفي هذا السياق، أصبحت تقدم الصين لإفريقيا المزيد من منتجاتها التكنولوجية المتقدمة، إضافة إلى المنتجات الصديقة للبيئة، أو ما يعرف بمنتجات الاقتصاد الأخضر كألواح الطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية والسلع الأخرى صديقة البيئة.
كما تزود الصين القارة الإفريقية بالتكنولوجيا الحديثة مثل شبكات الاتصالات 4G و5G والأقمار الاصطناعية الفضائية.
التجربة التنموية
إن العلاقات الصينية الإفريقية خلال العقود الماضية لم تشهد أي خلافات جوهرية، فالصين ليس لها تاريخ استعماري في إفريقيا، ومن ثم فإن علاقات الطرفين تخلو من الحساسية والمخاوف والشكوك، لذا فإن الفرصة مواتية لوجود تكامل اقتصادي مثالي لكلا الطرفين، حيث تتوافر تقريبًا لدى كل منهما احتياجات الآخر؛ فالشريك الصيني لديه فوائض رأسمالية وتقنيات متقدمة، ويمر بمرحلة نمو اقتصادي في حاجة إلى موارد عديدة، وإفريقيا أرض بكر للاستثمارات ومتعطشة لتقنيات تناسب ظروفها، وتحتاج إلى شريك دولي يستثمر وينمي ويطور مواردها، من دون أن تكون له مطامع أبعد من الاستفادة الاقتصادية المشتركة.
فضلا عن أن سجل الصين المتميز في التنمية، بما في ذلك القضاء على الفقر، يوفر مخزونًا من الخبرة والمهارة للقارة السمراء.
كما يمكن أن تقود الشراكة بين الصين وإفريقيا ثورة حقيقية بقطاع الطاقة المتجددة، وأن تكون حافزًا للتحولات الرئيسية في أنظمة الغذاء والاتصال الرقمي، وهذا من شأنه أن يضمن المنافع المتبادلة والنمو المستدام لإفريقيا والصين.