اختارت النمور الآسيوية طريق التجارة، وتصنيع منتجات دقيقة رخيصة الثمن، وبعدما أثبتت قدرتها وفعاليتها، فقد ارتقت صادراتها في الحجم والقيمة، والآن تستعد كوريا للمستقبل بالرهان على تصدير مصادر قوتها الناعمة، وهي تراهن على الثلاثي: الثقافة والطعام الكوري والموسيقى، وأحسب أننا أمام تجربة تصدير القوة الناعمة، وتحويلها لأحد مصادر الدخل، وهنا المستهدف صادرات تتجاوز 74 مليار دولار سنويا.
وأحسب أن الأمم عندما تحقق النجاح تبدأ تثق في أعز ما تملك؛ وهو رؤيتها للحياة، وتاريخها، وأسلوب حياتها، وطعامها، وموسيقاها، ولقد انطلقت الهند بطعامها وطقوسها الفريدة مثل اليوجا، كما تكفلت السينما والأغاني الهندية بأخبارنا الكثير عن الهند وحضارتها، ومخاوفها وأبطالها.
وتمكنت الصين من خلال طعامها، ولكنها تتلمس طريقها مع ثقافتها، وتعريف العالم بها، وكوريا من أحدث الدول التي بدأت السير في طريق تعريف العالم بحضارتها، ومنتوجها الثقافي، والآن العالم يشهد ما بات يعرف بالموجة الكورية، وتعد فرقة بي تي إس أهم علامات هذه الموجة، والتي وصلت الشرق الأوسط.
وتتناول [بي تي إس] موضوعات مختلفة، مثل الصداقة والتنمر والعلاقة مع العائلة، ويقدمون رسالة إيجابية حقيقية لتغيير العالم.
وفي دبي، وتحديدًا في مركز برجمان الشهير للتسوق، افتُتح مؤخرًا متجر "سبيس أوف بي تي إس" (Space of BTS)"، والذي شهد اصطفاف طوابير طويلة من محبي الفرقة الكورية الأشهر على الإطلاق (بي تي إس). ويمكّن المتجر الجديد زواره من شراء مختلف أنواع المنتجات المُرتبطة بالفرقة الكورية مثل الملابس، والإكسسوارات، والصور، والمجسمات؛ كما يمكن للرواد من معجبي الفرقة أيضًا التقاط الصور التذكارية المميزة.
المتجر افتتح أبوابه في التاسع من سبتمبر لفترة محدودة حتى الثامن من ديسمبر من العام الحالي، وهو الأول في منطقة الشرق الأوسط، ويعد الزحام الذي شهده المتجر أحد ملامح ظاهرة هوس الشباب واليافعين ليس فقط بهذه الفرقة وبموسيقى البوب الكورية أو الكي بوب (k-pop)، بل أيضًا بالثقافة الكورية بوجه عام فيما يُعرف بالموجة الكورية، والمدهش أن محدثي في كوريا قال لي إن الأمر بدأ مع نجاحنا في تنظيم الأولمبياد عام 1988 في سول، لحظتها قلنا لقد نجحنا، والآن نستطيع أن نخرج للعالم ونقدم ثقافتنا وتاريخنا وطعامنا وموسيقانا بفخر. والآن يريدون أن تكون استضافتهم لقمة آسيا الباسفيك حدثًا فريدًا، وإطلالة أخرى على العالم، والتعريف بمدينة جيونجو (منطقة التبريكات) العاصمة القديمة لسيلا خلال فترة الممالك الثلاث (57 قبل الميلاد - 668 ميلادية) ومملكة سيلا العظمى (668 ميلادية - 935 ميلادية) لأكثر من 1000 سنة.
وتقع جيونجو في الزاوية الجنوب شرقية لشبه الجزيرة الكورية. ومنذ القرن السابع، تطورت جيونجو لتصبح مركزًا تجاريًا لشبه الجزيرة الكورية، الأمر الذي أدى إلى وصول التجار عن طريق البر والبحر قادمين من المناطق الغربية والشرقية لطريق الحرير مثل الصين وشبه الجزيرة العربية واليابان. وهكذا، أصبحت جيونجو مركزًا رئيسًا لطريق الحرير، وكانت لها دور ذات قيمة في مجال التبادلات الثقافية المتنوعة، واليوم يريدونها أن تعطي دفعة لقوتهم الناعمة في مستقبل الأيام.
وأحسب أن التجربة الكورية تخبرنا بضرورة الاستعداد للمستقبل، وربما يبدو المستقبل بعيدًا في نظر البعض، ولكنه "على الناصية" القادمة من الطريق. ولعل أهم تحديات المستقبل تتعلق بقطاع صناعة السيارات، وهي تمثل في الحالة السورية 35% من إجمالي الناتج المحلي، والذي يصل إلى 2400 تريليون "وان".
.. ولقد بات واضحًا الآن في عالمنا أن من أهم تحديات المستقبل هي "المنافسة فائقة السرعة والتحول"، ولا ينحصر الأمر على من ينتج أرخص، بل من يمكنه أن يتغلب على التحديات البيئية، والتي باتت تفرض ضغوطًا فيما يتعلق بانبعاثات الكربون، وتلوث الهواء، والطاقة النظيفة، والتحولات التكنولوجية المذهلة في سيارات المستقبل، وتحدي السيارات الكهربائية، والمدن الذكية.
وأعتقد أن "مدن المستقبل" هي مدن خضراء صديقة للبيئة، توفر حياة أفضل ومنتجات أذكى، وراحة أكبر، ويتدخل فيها الذكاء الاصطناعي، وبها الكثير من وسائل النقل ذاتية القيادة، وهذا كله يفرض تحديات، وتحولات هائلة.
..وفي اللحظة الراهنة يبدو أن المستقبل يبدأ الآن، وتحدياته تهدد بقوة الحاضر، ولكن المهمة المطلوبة هي "جعل المستحيل" يبدو ممكنًا.
وكالعادة ليس أمام كوريا والآخرين من خيار سوى العلم والبحث العلمي،
واشتعل السباق من أجل إنتاج مواد جديدة، وإعادة تدوير أجزاء قديمة من السيارات، وبطاريات أرخص وأكفأ، وإعادة تأهيل لصناعة حيوية
تشهد تحولات الزمن التكنولوجي، ومتطلبات نمط حياة يتبدل بسرعة، وصراع شرش على السيارات الكهربائية، والتي تتصدر السباق فيه السيارات الصينية، ومعها سيارات تسلا الأمريكية، وتبدو السيارات الأوروبية تعاني بشدة؛ لأنها
تقدم سيارات باهظة الثمن.
..وهنا يحضرني حوار مع صديق مصري يعيش بدولة خليجية، والذي قال لي إنه قرر شراء سيارة كهربائية؛ لأنها أوفر بشدة في تكلفة الوقود، وصديقة للبيئة، وبها تكنولجيا مذهلة وأحدث، ومعظم الحكومات لديها إستراتيجيات طموحة وصارمة للتحول لاقتصاد أخضر.. وحكومة كوريا هي الأخرى تستعد بتوفير بنية تحتية، وليس فقط مزيد من محطات الشحن الكهربائية للسيارات، بل بمحطات يمكنك استبدال بطاريات حديثة للموتوسيكلات على طول الرحلة، وإعادة شحنها.
..ويبقى أن قصص النجاح تهب على عالمنا من الشرق، وبات الاستعداد للمستقبل قضية القضايا. ولقد حاولت تقديم بعض ملامح إجابة كوريا، والتي تعد واحدة من أكثر القصص إلهامًا في الوقت الحاضر.