تنتوي مصر الطلب من منظمة اليونسكو العالمية إدراج منتجات من تراثنا مثل آلة السمسمية ولعبة التحطيب وطبق الكشري على قائمة التراث غير المادي للإنسانية، وأقترح إضافة "عروسة المولد" إلى هذه القائمة، حيث يجري النظر في الطلب خلال اجتماع اليونسكو المقرر في شهر ديسمبر المقبل، في دولة باراجواي.
و"عروسة المولد" لم نقربها باللمس بعد اليوم الأول، ثم كنا نشاهدها فقط فوق الدولاب، لكنها بثوبها اللامع الشفاف، وبجوارها الحصان وفارسه، سوف تتحول يومًا إلى قطع من السكر الحجري الذي يذوبه شغفنا بالتكسير والالتهام أكثر من الآخرين..
يفاجئنا المولد النبوي الشريف دائمًا، أكثر من أي مناسبة أخرى، فلا مقدمات طقوسية من صيام أو حج، ولا فصل ثابت من فصول السنة، هي أحوال وتقاطعات التقويمين الميلادي والهجري. إنما تجذبنا الخيام الكبيرة التي تنصب في الشوارع فجأة، والزينات، والرائحة التي تبدأ في الانتشار، معطرة بأريج السكر.
نحن نحتفل هذه الأيام بالمولد النبوي الشريف.. ولا نسأل عن مخترعها، وغياب اسم مخترعها يكشف عن تفان في المناسبة ذاتها وقيمة إنسانية.. والشعب الذي يخجل من تراثه والذي يريد مسح ماضيه نحو حداثة مزعومة لن يتمكن أبدًا من إدراك الحداثة أو الحفاظ على ماضيه..
ويتفق غالبية الباحثين على ارتباط ظهور "عروسة المولد" بالوجود الفاطمي في مصر قبل أكثر من ألف عام، الوجود الذي طور أيام المناسبات الدينية بشكل احتفالي، ومن بينها حلوى المولد والعطايا والنفحات حول مساجد آل البيت، حتى أن الاحتفالات بالموالد طالت علي بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسين، والاحتفالات عمومًا كرست أيامًا كطلعة رجب والنصف من شعبان وعاشوراء، وارتبط كل ذلك بالطعام والحلوى وتكويناتها المختلفة.
وباتت صناعة منتشرة؛ حيث ذكرها المقريزي في خططه عن سوق الحلاويين: "ويصنع من السكر تماثيل من الخيول والسباع والقطط وغيرها وتسمي بالعلاليق وترفع بخيوط على الحوانيت منها ما يزن 10 رطل إلى ربع رطل تُشترى للأطفال فلا يبقى جليل ولا فقير حتى يبتاع منها لأهله".
ويبلور الباحث عبدالغني النبوي الشال في كتابه "عروسة المولد" (دار الكاتب العربي للطباعة والنشر ـ 1964) رأيًا في أصل العروسة، حيث "لم يثبت حتى الآن على الأقل أن عُملت عروسة أو تماثيل من الحلوى في التراث المصري القديم ولا في الإنتاجات القبطية، وإنما ظهرت هذه التماثيل من الحلوى في العصر الفاطمي".
بينما هناك احتمالية وصول الفكرة إلى الفاطميين من مصادر أخرى، قد تكون فرعونية، لكن "عروسة المولد" الفاطمية "صنعت لنفسها طرازًا وشكلا فنيًا مميزًا عن باقي العرائس الأخرى، وكذلك تميزت بخاماتها الفريدة".
وتطرق الباحث إلى أسباب من بينها انتشار الزواج بين أفراد الشعب حول تاريخ مولد النبي، أو خروج الخليفة وزوجته في ذلك اليوم، مما أعطى للفنان الشعبي مساحة ليضع الحاكم بأمر الله وزوجته في صندوق من الحلوى. كما أشار بوضوح إلى ارتباط "الرداء الذي تتحلى به عروسة المولد بشكل الزي الإسلامي المعاصر للدولة الفاطمية".
وكل ما تمناه الشال في بحثه الشيق وضع كل إنتاج فني مهما صغرت قيمته وقلت هيئته وتفهت خامته موضع التقدير والالتفات.
لقد تطورت صناعة "عروسة المولد" التي أصبحت من الخشب أو البلاستيك مع إدخال الموسيقى والغناء، بجانب عرائس الحلوى التقليدية.
ولكن "عروسة المولد" التقليدية، العمل الفني المتماسك الذي صنعه الفنان الشعبي المجهول، تتمتع عند الباحث الشال، بالنغم والتماسك والترابط والتكتل والاتزان والتعبير والتلخيص لجمال الطبيعة، والزخرفة والرمزية، ثم ارتباطها بالبيئة وبالتقاليد والموروث، وتأثيرها في الفنون الأخرى. ألا تدفع هذه العوامل إلى إضافة عروسة المولد إلى قائمة التراث غير المادي لدى اليونسكو.
وقائمة التراث غير المادي كما تحدث عنها وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو، خلال اجتماعه قبل أيام مع المديرة الإقليمية لمكتب "اليونسكو" بالقاهرة الدكتورة نوريا سانز، هي "مجال للتعبير عن الاحترام المتبادل بين الثقافات على المستويين الإقليمي والدولي"، وهذا صحيح، بالنظر إلى محاولات شعوب كثيرة إضافة علامات من تراثها في هذه القائمة، حتى تلك التي تشترك فيها مع دول أخرى، مثل تراث وطقوس "الحناء" التي تقدمت لإضافتها كل دول المنطقة تقريبا. وكذلك "آلية السمسمية" التي تقدمت لتسجيلها كل من مصر والسعودية.
ولا تتأثر عملية التسجيل بكثرة الدول التي تتقدم بملفاتها عن نفس التراث، لأن الهدف يبقى التسجيل كنوع من التقدير لتاريخ البلد والأثر.