Close ad

حكايات من الواقع: عزف على أوتار قلب أم.. !

8-9-2024 | 13:45
حكايات من الواقع عزف على أوتار قلب أم أرشيفية
خالد حسن النقيب

امرأة في مثل سني لا تنتظر من الحياة شيئا غير حسن الختام والاستعداد للقاء المولي عز وجل بتاريخ عمر طويل امتد سنوات تجاوزت الثمانين رزقني خلالها بطفلين توأم كانا كل حياتي‏,‏ اجتهدت أنا وأبوهما أن ننشئهما تنشئة سوية فأدخلناهما مدرسة أزهرية حتي يتلقيا من أمور دينهما القدر الذي يساهم في بناء أخلاقياتهما تماما كما يتلقيان من العلم ما يبني وعيهما و ثقافتهما ومكانتهما العلمية‏.‏

موضوعات مقترحة

كنا متيسري الحال لم نبخل في تهيئة الحياة الكريمة للطفلين نوفر لهما كل أسباب الرفاهية, كبرنا وكبر الطفلان حتي باتا علي أعتاب الثانوية العامة ولكنهما لم يكونا علي مستوي تعليمي واحد فقد كان أحدهما متفوقا في دراسته إلي حد كبير فيما كان أخوه متأخرا عنه ينجح في مراحله الدراسية بصعوبة.

وجاءت مرحلة الثانوية والتي كنا نطلق عليها وقتها التوجيهية حيث توجهت الحياة بالشقيقين كل في طريق, واحد منهما التحق بكلية الطب أما الثاني فقد كان خائبا, متعثرا, لا يهوي التعليم, توقفت كل طموحاته عند هذه السنة التي خرج منها بمجموع النجاح لتتجه به الحياة إلي مجالات العمل اليدوي.

يعلم الله أننا ما ميزنا واحدا منهما علي الآخر ولكنها مشيئة الله التي جعلت من إبنى طبيبا وإبنى الثاني عاملا كهربائيا ومضي كل منهما في طريق حياته, تزوجا وأنجبا أطفالا ولكن ما حدث أن إبنى الطبيب رغم ما أنفقناه عليه من أموال طائلة في دراسته وزواجه و تدبير شقة لاستخدامها عيادة كان دائم الاعتماد علي أبيه في أشياء كثيرة فيما كان الثاني شبه منعزل عنا تماما حتي عندما أراد أن يشتري محلا يستخدمه ورشة يعمل ويسترزق منها لم يعتمد علينا في شيء فوجئنا أنه استطاع تدبير مال من عمله تزوج منه و اشتري الورشة منه أيضا.

طوال الوقت كان قلبي يتقطع علي ابني هذا وأشعر أنه مظلوم في هذه الدنيا ولكني عندما أتحدث إليه أجده متفائلا دائما مقبلا علي الحياة بلا عقد, يقول لي يا أمي هذا حظي من الحياة و كفايتي من التعليم وأنا سعيد بحالي راض به أعيش من كدي وعملي ولا أبالي من شيء, أما أخي فهذا نصيبه من الدنيا التي أخذته ببريقها وزهوها حتي وجد نفسه وقد علا بما له من مكانة اجتماعية حتي عن توأمه في الحياة.

كانت كلمات ابني تقطر ألما علي قلبي ولم يكن في يدي شيء حتي جاء يوم حضر الموت إلي زوجي يريده وفوجئت به يرحل عني دون سابق إنذار من مرض وبقيت وحيدة في بيتي يتقدم بي السن رويدا رويدا تقوم علي رعايتي زوجة ابني الكهربائي فهي تداوم الحضور إلي يوميا تقضي لي بعض احتياجاتي ثم تعود لبيتها وأولادها أما زوجة الطبيب فلا أراها إلا نادرا وتأتي لدقائق مع ابني ليختفيا بعدها شهورا طويلة.

كنت أشتاق لرؤية أحفادي فأكلمهما أن يأتيا بهم ولكنهما لا يأتيان, أما أولاد إبنى الثاني فهم دائما إلي جواري حتى أنه وزوجته بارين بي لا يدخران جهدا في خدمتي.

كنت راضية بحالي وأحمد الله أني في كنف أحد أبنائي يقوم علي رعايتي ولم يكن قلبي غاضبا علي إبنى الطبيب, كنت أتخذ له الأعذار ولا ألومه حتي شقيقه لم يكن يغضب من تصرفاته ويحافظ دائما معه علي علاقة طيبة وعلي حد تعبيره هذا أفضل من القطيعة بينهما, ومضت بي الأيام حتي وصلت إلي قدر محتوم كان علي أن أتجرعه مرارة وحسرة فقد توفي ابني الكهربائي متأثرا بأزمة قلبية وهو بعد لم يتجاوز الخمسين من عمره تاركا ثلاثة من الأبناء وكانت زوجته تصغره بأكثر من ثلاثة عشر عاما ولم يمض عام علي ترملها حتي أصر والدها علي تزويجها من رجل آخر يسترها كما قال ويرعي أولادها, ومن هنا بدأ سيناريو العذاب فيما تبقي لي من عمر أحسبه ليس بالبعيد فقد صاحبتني أمراض الشيخوخة وأقعدتني عن الحركة وكان حتما أن تكون هناك امرأة تلازمني تساعدني علي المعيشة وبالطبع كانت مشكلة لابني الطبيب الذي لم يكن يستطيع أن يجبر زوجته علي رعايتي مثلما كان يفعل ابني الراحل والذي برحيله انتقلت زوجته لكنف رجل آخر وابتعدت عني.

لم يجد ابني حلا لمشكلتي غير أن يتخلص من همي دفعة واحدة فقرر أن يودعني إحدي دور رعاية المسنين, سمعت هذا منه فأغشت الصدمة الوعي مني لا أصدق أن إبنى سوف يلقي بي إلى الشارع ودعوت الله أن يلحقني بزوجي ولا يجعلني ثقيلة علي قلب ابني الوحيد.

 

ماذا أفعل وقد امتد بي العمر حتي تجاوزت الثمانين ولم يعد بي حيلة من أمري؟

استسلمت لقدري صاغرة ورضيت بما قسمه الله لي, تلحفت وحدتي في دار المسنين أتكورعلي همي لعل الموت يعجل من موعده ويريحني مما أنا فيه, كانت الأيام ثقيلة قاتمة يمضي بي الليل فاترا يجافيني النعاس إلا بالمهدئات التي اعتادوا أن يعطوها لي في كل يوم ولكن مع الوقت اعتدت حياتي وقلت في نفسي ما هي إلا أيام وتأتي النهاية المرتقبة وأستريح وأريح الجميع مني ولكن ما كان يشقيني ويؤلمني ألم أشواك تنغرس في قلبي كل يوم هو تحجر قلب ابني و قسوته عقوقا وجفاء لي أنا أمه ولعله لم يأت لزيارتي منذ زمن بعيد لا أستطيع أن أحصيه ولكني أتذكر أنه لم يأت لزيارتي غير مرة واحدة منذ أن تركني هنا حتي أحفادي لم أعد أري أحدا منهم و كأن الجميع لفظوني من حياتهم أو لعلهم اعتبروني ميتة علي قيد الحياة.

أكتب لك سيدي سطورا هي عزف أوتار قلبي الذي يتألم حرمانا وشوقا لابني وأحفادي أناديه من خلالك لعل قلبه المتحجر يرق لحال أمه فيترفق بها في أيامها الأخيرة ولعل همها لا يطول به كثيرا ويأتي قدر الله سبحانه وتعالي فأرحل عنه بكل ما أثقلت عليه من هم ومسئولية.

ل ـ م

إن للأم مكانة عند الله سبحانه وتعالي لو يعلم المرء قدرها لما ادخر جهدا في خدمتها ويكفي أن الله أعلي من قدرها بأن جعل الجنة والفوز بها لا يتأتي إلا من تحت أقدام الأمهات بما يعني أن رضا الأم هو الباب السحري لرضا الله ورحمته والطريق المضمون للفوز الأعظم في جنة الخلد وأنت يا سيدتي أم نذرت حياتها لولديها حتي انطلقا في الحياة يكابدونها و تكابدهم والآن اكتملت رسالتك علي أكمل وجه وكان حتما أن تمتد لكي يد البر والوفاء ترفقا ورحمة بك في خريف عمرك ولكنها أقدار الدنيا التي أرادت لك اختبارا قاسيا في نهاية العمر كانت قسوته العظمي أن ثكلت أمومتك ابنك البار الطيب الذي قنع من الحياة بأبسط ما فيها ولكنه فاز بأعظم ما فيها أيضا وهو رضاك عنه الذي يستند إليه يوم المشهد الأعظم راجيا رحمة ربه وغفرانه وبقدر حنانك وحبك له كان قلبك صابرا محتسبا مؤمنا بالله وقدره ولكن رحيله المفاجئ أفقدك من كان يقوم علي رعايتك ودفع بك إلي حياة غريبة تعيشينها وحيدة ولو أن هذا كان قدرا لعدم وجود ابن آخر يرعاك لهان الأمر ولكن ابنك حي يرزق وله في المجتمع من المكانة والجاه ما كان ليصل إليها دونك وأباه فكيف طاوعته نفسه إهمالك إلي هذا الحد المخذي, ألا يخشي يوما يلقي من أبنائه الإهمال والعقوق مثلما لقيت أمه منه. دعيني أقول له: يا ولدي يوما ما وبقدر محتوم سوف ترحل أمك هذه وتلبي نداء ربها راحلة عن الدنيا وساعتها سوف يبعث الله لك بملك, وذلك مصداقا لقول رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم, ينزل هذا الملك إلي السماء الدنيا يناديك يا بن آدم لقد ماتت التي كنا نكرمك من أجلها.

تعقل يا ولدي ولا تجعل من زهو الدنيا وزخرفها الزائف ما يعمي عينيك عن أمك المسكينة التي ألقيت بها وحيدة في بيت لرعاية المسنين ألست أنت أولي برعايتها؟

وتذكر يا أخي قول الله عز وجل في محكم آياته وقضي ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهمآ أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا صدق الله العظيم( الإسراء:23-24).

اذهب لأمك يا أخي واسترضها قبل فوات الأوان فليس منا من يضمن عمره يوما وخذ من التجربة الحياتية لأخيك التوأم الراحل قدوة حسنة وكيف أنه فاز بخير الدنيا والآخرة ولا تطع شيطان نفسك فما يدفعك إلا للخزي والعار.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة