يتقلب الإقليم على جمر أحاديث الأزمات المتفجرة يمينًا ويسارًا، والحرب الوشيكة بين إسرائيل وإيران وحلفاء الأخيرة في لبنان والعراق واليمن، وما سيرافقها من صدامات وارتدادات سيمتد مفعولها المدمر لفترة طويلة قادمة، ومنذ اللحظات الأولى استشرفت القيادة المصرية ما ينتظر المنطقة من كوارث مصاحبة لتعنت "تل أبيب" وإصرارها على المضي قدمًا في التصعيد وسياسة حافة الهاوية، ولم تكف مصر في مختلف تحركاتها وجهودها الدؤوبة عن التحذير من الأخطار المحدقة وحتمية الوقف الفوري لإطلاق النار في قطاع غزة، والتزام كافة الأطراف بضبط النفس.
انطلاقًا من هذا الاستشراف بادرت مصر إلى طرح رؤيتها وتصوراتها الكفيلة بتهدئة الأوضاع المتفجرة، وتصدت بحسم وبصورة متواصلة لماكينة الشائعات الإسرائيلية الرامية لإثارة الغبار وإبعاد الأنظار عما ترتكبه من جرائم ومذابح مخزية في غزة والضفة الغربية، والتعدي على سيادة الدول وانتهاك أراضيها، مثلما تفعل يوميًا في لبنان، ولم تترك الساحة نهبًا وفريسة سهلة لها.
وتابعنا عن كثب الدور النشيط والمكثف للقيادة السياسية عبر لقاءات واتصالات الرئيس السيسي، مع زعماء العالم، وآخرها كانت زيارته التاريخية إلى تركيا، وما تقوم به الدبلوماسية المصرية، بهدف إيجاد حل سريع وفاعل للأزمة الراهنة، وبما يحفظ ويصون حقوق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة في التحرر من براثن الاحتلال الإسرائيلي الجاثم فوق صدره ويتفنن في الفتك به دون اعتبار للقوانين والأعراف الدولية التي يضرب بها عرض الحائط، وسط تخاذل دولي فاضح وازدواجية معايير مقيتة تبعث على الغثيان.
لقد أبرزت الأحداث الجارية المتلاحقة حقائق واضحة وضوح شمس الظهيرة في كبد السماء، يتصدرها أن الدور المصري يعد ركيزة أساسية، ولا يمكن لأحد التجرؤ على إنكاره، أو القفز من فوقه واستبعاده من المعادلة الإقليمية والعالمية، فالجميع يطرق أبواب القاهرة طالبًا مشورتها ومساعدتها في العثور على مخرج آمن وقابل للتطبيق، مما يمر به الشرق الأوسط من قلاقل واضطرابات واحتقانات، وكبرهان عملي لننظر فقط إلى التحركات التي قام بها الرئيس السيسي إبان الأسابيع الماضية على الساحتين الإقليمية والدولية، وكذلك وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطي، وهذا المؤشر وحده من بين مؤشرات عديدة أخرى خير رد على الأبواق التي كانت تزعم كذبًا وبهتانًا أن دور مصر بالمنطقة يتراجع ويتقلص، وأن آخرين حلوا محلها وباتوا بديلا لها.
الحقيقة الثانية: أن مصر، في التطبيق العملي على الأرض، أكبر وأهم مدافع عن القضية الفلسطينية وبذلت وتبذل في سبيلها الكثير، وأن موقفها ذلك كان له، ولا يزال، تأثيره القوي والفعال في وأد محاولات إسرائيل المتواصلة لطمسها وتغييبها عن الساحة والمحافل الدولية، ومَن ينكر أو يشكك في هذا فإنه بدون أدنى شك إما مصاب بالحول السياسي، أو مغرض.
الحقيقة الثالثة: أن الدولة الوطنية المصرية ومؤسساتها قوية، وتقدر الأمور بميزان حساس، وفقًا للمصالح الوطنية، وتبني قراراتها ومواقفها استنادًا لها، ولديها من المقومات والمقدرات الكافية والضامنة لحماية الأمن القومي المصري، وتعي ما يُدبر ويُحاك مِن حولها ويستهدفها وتقف له بالمرصاد، في ظل ظروف شديدة التعقيد وغير مسبوقة، وتهديدات قادمة من كل الاتجاهات الإستراتيجية المرتبطة بأمننا القومي، فالسودان يغلي، بينما المجتمع الدولي يعطيه ظهره غير مكترث بما يكابده من مآزق، وفي غزة مآسٍ بشعة تمر تحت سمع وبصر الأسرة الدولية التي لم تستطع، حتى حينه، وضع حد "لهولوكوست غزة"، وليبيا لم تقف بعد على قدمين ثابتتين، جراء انتشار الميليشيات المسلحة، وغياب التوافق عن مكوناتها السياسية والحزبية، فضلا عما يجري في منطقة القرن الإفريقي من محاولات لفرض سياسة الأمر الواقع على حساب الأمن الإقليمي، وهنا يتعين إيضاح وبيان أنه عندما هبت مصر لمساعدة البلد الشقيق الصومال؛ فإنها قامت بذلك استجابة لطلب منها بهذا الخصوص، وضمن آلية الاتحاد الإفريقي.
الحقيقة الرابعة: أن الدبلوماسية المصرية مدرسة عريقة وراسخة، وتقوم بجهد جبار في مواجهة ما أوضحناه سلفًا من أزمات متصاعدة، وتضم بين جنباتها مجموعة من خيرة العقول النابهة والواعدة المسئولة عن رعاية مصالحنا القومية، وهو ما لمسته حقيقة، خلال لقاء مطول شاركت فيه الأسبوع الماضي، ضمن عدد من رؤساء التحرير ومجالس الإدارة، مع وزير الخارجية الدكتور بدر عبدالعاطى، الذي استعرض الثوابت والدعائم التي تقوم عليها الدبلوماسية المصرية صاحبة الـ 200 عام.
وبمقدورنا تحديد بوصلة سياستنا الخارجية في عناوين عريضة يلزم لتفصيل جزئياتها ومحاورها كثير من الوقت، وأولها الاتزان الإستراتيجي، ورفض سياسات الاستقطاب والأحلاف، والالتزام بالمواثيق والمعاهدات الدولية، وفي مقدمتها ميثاق الأمم المتحدة، ومنح أولوية للدائرة العربية، وإقامة شراكات إستراتيجية مع القوى الدولية الفاعلة على المسرح العالمي، والمساهمة في جذب مزيد من الاستثمارات، فهناك دور تنموي متنامٍ تقوم به وزارة الخارجية بالتنسيق والتعاون مع الوزارات الأخرى المعنية.
وبالتالي فإن الجميع مطالب بالاصطفاف خلف الدولة المصرية ومؤسساتها الوطنية التي تتصدى بحزم ووعي لكل ما يواجهنا من أزمات ومشكلات حادة إقليميًا ودوليًا، فهذا واجب لا يجب التقاعس عنه، وندعو الله أن يحفظ مصر وشعبها دائمًا من كل سوء.