ذكرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية، أنه انطلاقا من حاجة الولايات المتحدة إلى حلفاء أوروبيين أقوياء عسكريا وقادرين على حماية حدود أوروبا في الشرق والجنوب ضد مختلف التهديدات، دعت الإدارات الأمريكية المتعاقبة الحلفاء الأوروبيين إلى بذل المزيد من الجهد من أجل الدفاع عن أنفسهم، بما في ذلك زيادة الإنفاق، وتحسين القدرات، والردع .
موضوعات مقترحة
وقوبلت هذه المناشدات ببعض الاستجابات الإيجابية، خاصة بين دول الحدود الشرقية لحلف شمال الأطلسي (ناتو)، لاسيما بولندا وفنلندا ودول البلطيق، إلا أن معظم الحكومات الأوروبية الأخرى تواصل المماطلة، حيث تراجعت ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، عن زيادة حجم إنفاقها العسكري إلى 2% على الأقل من ناتجها الاقتصادي والذي وعدت به بعد هجوم روسيا على أوكرانيا في عام 2022، كما أن هناك فجوة كبيرة ومتزايدة الاتساع بين خطاب الأوروبيين المعارض لطموحات روسيا الإقليمية وقدرتهم على فعل شيء حيال ذلك.
وأشارت المجلة الأمريكية إلى أن أحد الحلول التي نوقشت كثيرا هو أن يتولى الاتحاد الأوروبي دورا أمنيا أكبر، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى إنشاء جيش أوروبي مشترك، وإن كانت هناك تحذيرات من ألا يؤدي ذلك في النهاية إلى تعزيز الأمن الأوروبي .
بل على العكس من ذلك، قد يكون إنشاء هذا الجيش الموحد ضارا لسببين ، يتمثل السبب الأول في أنه لا يوجد تقييم مشترك للتهديد بين الدول الأعضاء السبع والعشرين في الاتحاد الأوروبي، ما من شأنه أن يؤدي إلى تباين في وجهات النظر أو نشر غير فعال للموارد. كما يتمثل السبب الثاني في أنه حتى لو تمكن الاتحاد الأوروبي من وضع وإدارة سياسة دفاعية جادة، فلا يوجد ما يضمن أنها ستكون قوية في معارضتها لروسيا وغيرها من القوى التوسعية (القوى الساعية لاحتلال أراضي الغير بالقوة). وبالتالي فإن اتحادا أوروبيا بقدرات دفاعية موحدة وقوية قد يكون غير متوافق مع تطلعات تعزيز الأمن في القارة .
ولفتت المجلة إلى أهمية مراعاة أن غياب وجود تقييم مشترك للتهديدات في أوروبا ليس بالأمر الجديد. فعلى سبيل المثال، تشعر روما بالقلق إزاء الهجرة من شمال أفريقيا، في حين تركز وارسو على التهديد الروسي. كما أن لباريس مصالح في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى لا تشاركها برلين. وحتى إذا كانت الدول تتفق في وجهات النظر بشأن التهديدات ــ وهو ما لا يحدث عادة ــ فقد تتبنى وجهات نظر متعارضة بشأن كيفية تحديد أولوياتها أو معالجتها. ولا سبيل حتى الآن –وفقا للمجلة- إلى تجاوز هذه الاختلافات العميقة، مهما بلغت كفاءة مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وسوف يظل تصور التهديدات متباينا للغاية نظرا للحقائق المتعلقة بالجغرافيا والتاريخ والسياسة الداخلية ومجموعة أخرى من الأسباب.
وترى "فورين بوليسي" أن المسئولين الأوروبيين قد يتحدثون عن التضامن بين الدول الأعضاء، ولكن ذلك لا يمكنه التخفيف من حدة الاختلافات العميقة في النظرة الأمنية، خاصة وأن التضامن يظل مرتبطا بالعروض أو التبادلات بين الدول. بمعنى، أن فرنسا –على سبيل المثال- قد تساعد بولندا عسكريا في مقابل قبول وارسو للمهاجرين الأفارقة، أو قد تساعد ألمانيا إيطاليا في استقرار جنوب البحر الأبيض المتوسط في مقابل استمرار الدعم الإيطالي لمنطقة اليورو. ورغم وجود هذا القاسم المشترك للتضامن، إلا أن هذه التبادلات تظل هشة ومشروطة ومن غير المرجح أن تصمد في حالة انهيار الأمن بشكل دراماتيكي.
وأوضحت المجلة الأمريكية أنه بدلا من التعاطي مع هذه الأولويات المتباينة بشدة، فقد صاغ الاتحاد الأوروبي سلسلة من الأهداف السياسية الغامضة وحتى الخيالية التي تفترض وجود قارة في سلام وأموال وفيرة لمتابعة مجموعة متنوعة من التطلعات الباذخة، فعلى سبيل المثال، كانت الأولوية الأولى للمفوضية الأوروبية على مدى السنوات القليلة الماضية هي الصفقة الأوروبية الخضراء، وهو مشروع مكلف للغاية ومحفوف بالمخاطر الاقتصادية لتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050.
كما أن الأولويات الخمس لأوروبا لا تنسجم بصورة كبيرة مع تطلعات تحقيق الأمن الإقليمي أو العالمي، حيث تتمثل هذه الأولويات والتي تمثل القاسم الأدنى المشترك بين دول الاتحاد في: "أوروبا مناسبة للعصر الرقمي"، "اقتصاد يعمل من أجل الناس"، "أوروبا أقوى في العالم"، "تعزيز أسلوب حياتنا الأوروبي"، "دفعة جديدة للديمقراطية الأوروبية". كما أن أولوية "أوروبا أقوى في العالم" تظل غامضة وغير عملية وتفتقر إلى التركيز الاستراتيجي أو الموارد الكافية لدعمها، فيما لا تقدم قائمة الأولويات السابقة أي أمل حقيقي في أن يتعامل الاتحاد الأوروبي كمؤسسة بجدية مع التهديدات التي تشكلها القوى الأخرى على القارة.
وترى المجلة أيضا أن السبب الآخر وراء عدم قدرة الاتحاد الأوروبي التحول إلى مستوى الفاعل الأمني هو أن بعض الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي تتبنى استراتيجية كبرى من الاسترضاء. فعلى سبيل المثال، فإن ألمانيا ــ بتاريخها الطويل من تبني نظرية المذهب التجاري (الهيمنة عبر التجارة)، ومفاهيمها التي تصفها المجلة بـ (الساذجة) عن "التغيير من خلال التجارة"، وميلها إلى تجاهل جيران روسيا الأصغر حجما ــ تفضل على الأرجح الاستمرار في المشاركة على المنافسة.
وحتى إذا تبنى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مؤخرا خطا متشددا بشكل مفاجئ تجاه روسيا، فإن فرنسا لديها تقليدا طويلا في التعامل مع روسيا في إطار نهج "تضافر القوى". كما قد تلقي برلين وباريس وأنصارهما في الاتحاد الأوروبي باللوم في الصراع مع موسكو على الطبيعة العسكرية المفترضة للدول الواقعة على خط المواجهة في أوروبا بدلا من الطموحات الإمبراطورية الروسية.
وبالرغم من أن الاتحاد الأوروبي نجح عقب الغزو الروسي في تخصيص بعض الأموال لتدريب الجنود الأوكرانيين وشراء الأسلحة، وهي المرة الأولى التي يسلح فيها الاتحاد دولة في حالة حرب، إلا أن هذه الخطوة محدودة للغاية ولا ترقى للتطلعات الخاصة بالتحول إلى جهة فاعلة أمنية.
ونبهت "فورين بوليسي" إلى أنه حتى لو تعهد الاتحاد الأوروبي بسياسة دفاعية وأمنية جادة، فقد لا يسعى إلى تحقيق ما هو مطلوب بالفعل لردع وهزيمة الإمبريالية الروسية أو تعزيز استقرار منطقة البحر الأبيض المتوسط الأوسع، بل قد ينجرف الاتحاد الأوروبي الجيوسياسي نحو ارتباط أوثق مع روسيا والصين.
لذا، فإن التهديد الأكبر للعلاقات عبر الأطلسي لا يتمثل في أن واشنطن ستكون أقل دعما لأوروبا - سواء بسبب العودة المحتملة للرئيس السابق دونالد ترمب إلى البيت الأبيض أو انشغال الولايات المتحدة بتوسع الصين في آسيا، بل في تجنب أوروبا لانتهاج سياسات أمنية قوية، والسعي إلى التكيف مع خصوم الولايات المتحدة.
وعليه، ترى مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية أن أهمية ألا يصبح الاتحاد الأوروبي فاعلا عسكريا تأتي من واقع أن هناك كتلة صلبة من الدول الاسكندنافية يشكل التهديد الإمبريالي الجديد من روسيا مصدر قلق أمنيا أساسيا بالنسبة لها. وهذه الدول متفقة بالفعل على الحاجة إلى التسلح، وردع الكرملين، والحفاظ على ارتباط وثيق بالولايات المتحدة. ومن الممكن أن تؤدي مركزية الاتحاد الأوروبي إلى إضعاف وإلغاء سياسات الدفاع القوية التي تتبناها هذه الدول.
كما أنه فيما يتعلق بالمشتريات الدفاعية، من المرجح أيضا أن تقوم الدول الأوروبية الفردية باستثمارات أفضل. وبدون اتخاذ القرارات الجماعية على مستوى الاتحاد الأوروبي، فسوف تكون هذه الدول حرة في شراء الأسلحة التي تحتاج إليها بشكل عاجل، حتى لو كان ذلك يعني شراء الطائرات الأمريكية والدبابات الكورية الجنوبية، كما فعلت بولندا، رغم أن ذلك أثار استياء صناعة الدفاع الفرنسية. ومن شأن المشتريات على المستوى الوطني أن تتجنب عملية الاتحاد الأوروبي غير الفعالة والمرهقة والتي من المرجح أن تقتصر على المعدات التي تصنعها الشركات الأوروبية فقط.
وأوضحت المجلة أنه على سبيل المثال، بلغت نسبة مشتريات الدفاع للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي خلال هذا العام من موردين من خارج الاتحاد 63%، رغم مساع لحث الدول الأعضاء على "إنفاق نصف ميزانية المشتريات الدفاعية على الأقل على المنتجات المصنوعة في أوروبا".. ولكن، نظرا لخطورة التهديدات، فإن هذا الأمر غير واقعي، خاصة وأن هذه الدول تواجه حقيقة أنه يتعين عليها ملء مخازن المدرعات والذخيرة الخاصة بها بسرعة إذا كانوا يريدون ردع روسيا.
وأخيرا، فإن مصلحة (واشنطن) تقتضي وجود حدود أوروبية مستقرة لا تتطلب نشرا جماعيا للقوات الأمريكية أو الإنفاق المستمر للموارد النادرة. ومن المرجح أن تحقق الولايات المتحدة هذه النتيجة إذا استمرت في الرهان على حلفائها بشكل فردي.