مصر منذ عهد الخديو إسماعيل أصبحت مصدر إغراء للمغامرين الأجانب الذين وفدوا إليها بحثا عن عمل أو فرص استثمارية
موضوعات مقترحة
يحار الناظر إلى لوحاته كيف يصالح بين الحس الصوفى الزاهد والمتأمل وبين طاقة حسية مذهلة يعيد فيها تأويل صور المدينة ويقرنها بالغواية
تأثر سعيد بالفنان شارل بوجلان وهو فنان ودبلوماسى فرنسى كان يعمل ملحقًا تجاريا بسفارة فرنسا بمصر
ينتمى معرض (فى صحبة محمود سعيد)، المقام فى قصر عائشة فهمى بالزمالك إلى نوعية من المعارض تسمى المعارض البحثية، أى تلك التى لا تكتفى بعرض الأعمال، وإنما تهتم بمسائل كثيرة منها: الكشف عن أعمال مجهولة وتوثيق تلك الأعمال، لتصبح إضافة إلى تراثنا الثقافى فى المتاحف الفنية، وتساعد أيضا فى إعادة دراسة تاريخ الحركة التشكيلية خارج الأطر القديمة والتى اعتمدت بصورة رئيسية على رؤى الدارسين الأجانب.
حقق المعرض نجاحا كبيرا، لأنه أكد أن المتاحف ليست مقابر أو أماكن للتخزين، وإنما مؤسسات لإنتاج المعرفة، وتحت هذا المفهوم سلط المعرض الضوء على حقبة مجهولة من تاريخ الحركة التشكيلية فى مصر، تعود لنهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وعرض نماذج مهمة من أعمال فنانين أجانب ومتمصّرين عاشوا فى مصر خلال تلك الفترة التى يسميها المؤرخون فترة النهضة.
وتم جمع لوحات هؤلاء الفنانين من متاحف الجزيرة ومتحف الفن الحديث ومتحف الفنون الجميلة بالإسكندرية، ونجح فريق البحث فى توثيق معلومات عن أصحابها لم تكن متاحة من قبل كما ضم مقتنيات لخبيرين فى مجال المقتنيات الفنية، هما الدكتور حسام رشوان والفنان التشكيلى حسين الشابوري.
تحدى النهضة
تشير هذه التسمية لتحديات خاضتها مصر للتخلص من الهوية العثمانية، وتأكيد هويتها المستقلة وزاد من طبيعة هذه التحديات، مجىء الاحتلال البريطانى عام 1882 بعد أن حوصرت نهضة مصر بالديون خلال عصر الخديو إسماعيل.
ومن ثم اقترنت فكرة التحديث بالاحتلال، الأمر الذى دفع بمفكرى تلك الحقبة، وأغلبهم كان من إنتاج البعثات التى انتظمت فى السفر إلى أوروبا منذ عصر محمد على ناحية البحث عن رؤى توفق بين ضرورة النهضة وبين ابتكار وسيلة لمقاومة المحتل.
ونعرف أن هناك تيارات، استندت على فكرة استعادة الماضى بكل صوره وتقاليده، وهناك تيارات موازية فضلت الاقتداء بالغرب والرهان على التعليم كمدخل للإصلاح الشامل، وفى قلب هذا الجدل تشكلت الارستقراطية المصرية، وكان لها طموحات ناحية تحقيق الاستقلال، ولكن مصالحها تقودها ناحية نمط من أنماط التبعية يوثق من روابطها مع القيادة الاستعمارية.
من جهة أخرى كانت مصر منذ عهد الخديو إسماعيل، قد أصبحت مصدر إغراء للمغامرين الأجانب الذين وفدوا إليها بحثا عن عمل أو فرص استثمارية، بعد أن نجحت تماما خطة ربط الاقتصاد المصرى بالاقتصاد العالمى بسبب تحولات تجارة القطن فى البورصات العالمية فضلا عن التوسع فى السوق العقارى بعد أن اضطرت الدولة لبيع ما تحتكره من أراض فيما يسمى قوانين المقابلة عام 1871 التى ساعدت فى تمييز طبقة مصرية ناشئة، كما أن ظروف الحرب العالمية الأولى أدت إلى هجرات من السواحل الأوروبية ناحية الإسكندرية على نحو عزز الصورة الأسطورية للإسكندرية كمدينة تعددية أو مدينة كوزموبولتيانية.
خارج القواعد
ولد الفنان محمود سعيد 1887 م، داخل هذا السياق، فهو الأرستقراطى ابن محمد سعيد باشا، رئيس الوزراء الذى حمل صفات طبقته وطموحاتها فى الاقتداء بالثقافة الغربية حيث نشأ نشأة غربية تماما وتلقى دروس الموسيقى والرسم وفقا لتقاليد هذه الثقافة من خلال مدرسين أجانب كانوا يأتون إليه أو يتردد على مراسمهم التى انتشرت فى المدينة.
وبينما اقتنع بعض الرواد من الرسامين بالتعاليم الأكاديمية الأوروبية، فإن محمود سعيد سار فى مسار مختلف، وأبدع فى اتجاه منسجم مع سؤال الهوية المصرية، الذى أفرزته ثورة 1919، لذلك يرى البعض أن فنه يماثل فن سيد درويش وإبداعات توفيق الحكيم ومحمود مختار.
لذلك يدرك زائر المعرض بسهولة أن معظم اللوحات الفنية المقدمة فى المعرض، تزامن إنتاجها مع سنوات تأسيس مدرسة الفنون الجميلة فى عام 1908 على يد الأمير يوسف كمال، فقد ولدت أعمال محمود سعيد فى نفس السياق الذى أفرز محمود مختار ويوسف كامل وحبيب جورجى ومحمد ناجى وراغـب عياد، الذين أصبحوا رواد الحركة التشكيلية، وأظهروا ملامح الهوية الفنية المصرية، بالمزج بين تقاليد وتقنيات مدارس الفن الأوروبية، وبين الموضوعات التى تعكس وتجسد هوية مجتمعاتهم وثقافتها.
وشأن معاصريه استوعب سعيد التقاليد الغربية وأعاد صياغتها بعين فنان مرتبط بجذوره،كما ابتعد عن صرامة القواعد الأكاديمية، وأعطى لنفسه الحق فى التمرد، فهو فنان تأثيرى أحيانا وفى أحيان أخرى مخلص للفن المصرى القديم، وبالذات المرحلة الأخناتونية فى تشكيل الوجوه، وقد يصبح فنانا رمزيا تعكس لوحاته مختلف صور القلق الوجودى والانفعالات ذات الملامح الفانتازية، التى تحاول فك طلاسم الطبيعة وتلاعبها بقواعد التأثيرية التعبيرية أو حتى بقواعد التجريد.
يحار الناظر إلى لوحاته كيف يصالح بين الحس الصوفى الزاهد والمتأمل وبين طاقة حسية مذهلة، يعيد فيها تأويل صور المدينة ويقرنها بالغواية، وفى المناظر الطبيعية التى رسمها ثمة تأكيد على المهارة واستيعاب مذهل للتأثيرية التعبيرية فى حين تنطق الوجوه التى رسمها بقدرته على تأمل أعماق الشخصيات التى رسمها فهو يتجاوز الملامح إلى تسجيل الحالة النفسية وحين تقارن تعامله مع رسوم أسرته فى اللوحات التى رسمها فترة البدايات هناك شيء من التحفظ أدركه نقاد أعماله بينما كان متحررا إلى حد كبير فى رسم الشخصيات الأخرى واعتمد دائما فى التعامل رسوم الشخصيات على التعبيرية البنائية.
على الرغم من أن أعمال محمود سعيد من الأعمال المعروفة والمتاحة فى متحفه الدائم بالإسكندرية، إلا أن تقديمها فى سياق جديد داخل المعرض إلى جوار فنانى عصره الذين أثروا فى تكوينه يكشف قدراته فى التفاعل ليس فقط مع الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية وإنما مع محيطه الفني، وهو تفاعل يؤكد قدراته الفذة فى الاستيعاب، ثم التجاور والتجاوز تحت وعى جديد بمفهوم العبقرية.
كما يكشف المعرض عن استفادة سعيد الكبيرة من الاشتغال على الرسوم التحضيرية أو الاسكتشات التى تسبق الإنجاز النهائى للوحة وتتسم بالحيوية، وقد تأثر فى ذلك كله بمعاصريه من الفنانين الأجانب.
معرض استثنائي
يؤكد المعرض أن محمود سعيد بعد 60 عاما من وفاته لا يزال مغريا بالبحث والاكتشاف، خصوصا أنه لا يزال الفنان الأكثر شعبية على امتداد تاريخ فن التصوير المصرى الحديث.
يركز مفهوم المعرض ليس فقط على أساس تقديم المعرض الاستعادى لأعمال فنان معروف، وإنما يكشف عن معاصريه ومعلميه من الفنانين الأجانب التى تمتلئ مخازن متاحفنا بأعمالهم، الذين صاغوا رؤاه فى المراحل الأولى من تجاربه الفنية، بفضل تفاعله مع إنتاجهم،والمشاركة معهم فى تأسيس جماعات فنية ومبادرات، استهدفت رعاية الفنون الجميلة فى مصر لذلك فإن المعرض، كما وصفه وزير الثقافة الدكتور أحمد هنو خلال الافتتاح “تأريخ لحقبة كاملة”.
الكنز المجهول
يضم المعرض لوحات 14 فنانا بخلاف سعيد، هم 13 فنانا أجنبيا من إيطاليا وفرنسا واليونان، بالإضافة إلى فنان مصرى يهودى هو جوزيف مزراحى وقد عكف خبراء من قطاع الفنون التشكيلية على ترميم هذه اللوحات، من بين اللوحات التى يكشف عنها المعرض أعمال للفنانة الإيطالية إميليا كاسـوناتو، مؤسسة أول مدرسة لتعليم فنون الرسم والتصوير فى مصر، وكان ذلك عام 1902 أى قبل إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بالقاهرة بنحو ستة أعـوام، وقد تتلمذ سعيد على يديها وهو لا يزال فتى صغيرا، قبل أن ينتقل إلى مرسم الإيطالى أرتورو زانييرى عام 1916 وهو صاحب التأثير الأكبر على محمود سعيد فى تعامله مع الموديل ولوحات البوتريهات، وبالذات فى أوضاع الجلوس وطبقات اللون، كما تأثر بأعمال الفرنسى روچيه بريڤال الذى جاء من باريس إلى القاهرة فى عام 1920، وأسهم فى تأسيس مجموعة الخيال التى كان سعيد عضوا فيها، وهى أول جماعة فنية فى مصر، كانت مهمتها الرئيسية هى التأسيس لفن مصرى حديث ذى طابع قومي”.
لعب بريفال دورا مهما مع الإيطالى چوزيبى سيباستى الذى أسهم مع الفنان محمد ناجى فى تأسيس أتيلييه الإسكندرية عام 1934، وكان الصديق الأقرب لمحمود سعيد، وزامله فى مرسم زانييري، واشتركا معا فى تأسيس متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية.
وحسب خبير المقتنيات الفنية حسام رشوان الذى أمد منظمى المعرض ببعض الأعمال النادرة والأرشيفات التاريخية والتوثيقية، فإن المعرض يعيد الاعتبار كذلك لأسماء مهمة منها السويسرية كليا بدارو، والفنان الفرنسى شارل بوجان الذى رافق بريڤال فى التجول فى شـوارع القاهرة، ونقل معه كل مظاهر الحياة اليومية فى مصر، كما أسهم فى وضع حجر الأساس لعدد من التجمعات الفنية، أهمها جمعية محبى الفنون الجميلة.
من بين أبرز الأعمال التى يضمها المعرض لوحات الفنان لوران مارسيل ساليناس الذى وُلد بالإسكندرية لأب فرنسى وأم إيطالية، وأمضى أهم فترات حياته وهـو فى ريعان شبابه بين فرنسا ومصر، ليصبح بعد ذلـك رفيقـا حميما للفنان العالمى بابلو بيكاسو لبراعته فى أساليب وتقنيات الطباعة الحجرية، وهو الوحيد الذى سمح له بيكاسو بوضع اسمه إلى جواره.
كما استفاد محمود سعيد من أرستيد باباجور، الذى ولد أرستيد باباجورج بالإسكندرية عام 1900، ودرس الفن فى باريس، حيث أقام لمدة خمسة عشر عامًا. ويعد فى الصف الأول للرسامين السكندريين الأجانب لما كان له من تأثيرٍ واضحٍ على المزاج العام للتصوير المصرى الحديث، وربما وصل إلى حرية أكبر فى التنفيذ؛ حرية أثرت على بعض الفنانين الذين اقترب أسلوبهم من أسلوبه بعد ذلك.
استفاد العديد من الفنانين المصريين من الدرس الذين تلقوه من خلال أعمال باباجورج، وذلك من خلال معرفتهم بأن بعض المبالغات وربما بعض التشويه مفيد بلا شك.
كما تعرف سعيد على الفنان اليونانى أرستومينيس أنجلوبولو، الذى جاء إلى مصر فى عام 1916، حيث أقام فى مدينة المنصورة لمدة عامين قبل أن يستقر فى الإسكندرية فى عام 1918. سافر إلى ميونيخ فى عام 1924، وإلى باريس من عام 1926 حتى عام 1929، ثم عاد إلى الإسكندرية حيث استقر فيها نهائيًّا، وكان من المثقفين البارزين، حيث كان أحد مؤسسى أتيلييه الإسكندرية وجماعة الصداقة الفرنسية.
فى عام 1933، تعرف على الفنان محمود سعيد، حيث كانا يرسمان ذات الموديل فى ذات المرسم فى كثير من الأحيان، فربطتهما علاقة صداقة قوية. توجد لوحاته فى مجموعات خاصة، وفى مجموعة متحف الجزيرة بالقاهرة، ومجموعة متحف الفنون الجميلة بالإسكندرية.
يعبِّر أنجلوبولو عن نفسه بسهولة أكبر عن طريق الخط لا عن طريق اللون، كما يوازن بين واقعيته الشاعرية، وبين تراكيب ذهنية معينة هى من خصائصه وحده، فهو يحاول دائمًا المزج بين اتجاهين تصويريين متباينين، يحس نفسه مدفوعًا إليهما على السواء.
وتتلمذ سعيد على يد الفنان الإيطالى أرتورو زانييرى، مع الناقد أحمد راسم، وشريف صبري، والأميرة سميحة حسين، وغيرهم الكثير من الفنانين، وكان رسام البورتريه الأكثر طلبًا، حيث تميّزت أعماله بالوقار والذوق الرفيع فى التكوين والأمانة فى محاكاة الواقع.
كما تأثر سعيد بالفنان شارل بوجلان، وهو فنان ودبلوماسى فرنسي، كان يعمل ملحقًا تجاريًّا بسفارة فرنسا بمصر.
وفى عام 1923، انتُخِب بوجلان ليكون سكرتيرًا لجمعية محبى الفنون الجميلة عند تأسيسها على يد الأمير يوسف كمال، وفى عام 1924 أختير أيضًا ليكون سكرتيرًا لجماعة الخيال، ربما يرجع ذلك لخبرته الإدارية والدبلوماسية. استقر بوجلان بشارع الأنتيكخانة بوسط القاهرة بالقرب من مرسم بريفال، مما سهّل اشتراكه فى جميع أنشطة جماعة الخيال، حيث كان يعرض أعماله بصورة منتظمة.