عندما دعانا الله تعالى في قرآن يتلى إلى أن يشاء تعالى، عندما دعانا إلى التأمل والبحث والتنقيب موجهنا إلى منهج غاية فى الأهمية هو منهج الاعتبار، فاعتبروا يا أولي الألباب.
يا أصحاب العقول النيرة المستنيرة دعوة من فوق سبع سماوات للارتقاء بالإنسان بما هو كذلك، ثم قال "ديكارت" رائد من رواد الفلسفة الحديثة، أنا أفكر، أنا موجود، رابط بين وجودين وجود مادي ووجود مفارق موظفًا الوجود المادي للانتقال إلى الوجود الحقيقي عن طريق الفكر، فارتبط الوجودان بالفكر.
وإذا كان ذلك كذلك، فحقيق بنا أن نعمل فكرنا في كل صغيرة وكبيرة.
فبعيدًا عن صخب الجمل والعبارات الرنانة، والشعارات الجوفاء المفرغة من مضمونها المهتمة بالصورة طارحة الجوهر أرضًا، أو ضاربة به عرض الحائط، فإننا دومًا ما نسمع هذا المثل الأجوف، (الجواب باين من عنوانه)، لا وألف لا الخطاب لا يقرأ من عنوانه، فكثيرة هي العناوين البراقة التي لو نظرنا إليها نظرة عارضة بعين الإنسان البسيط، رجل الشارع البسيط قد نعجب بها، وقد نبني عليها ونقدم المدائح لها، وقد نقيم الندوات عليها ويتبارى الكتاب والمحللون لتحليل هذه العبارة، دونما قراءة متأنية لمضمون هذه الخطابات التي لو تمت قراءتها بتؤدة وسكينة وعقلانية وموضوعية، دون ذاتية مفرطة، ودون التفات إلى كاتبها أو قائلها، أيًا كان مكانه ومكانته، فقد نصل إلى حل لمشكلات كبيرة، قد يظن البعض أنها عصية الحل.
كمن يقول مثلا: "لا تقربوا الصلاة" ويتركها هملًا دون أن يكملها، ولاسمه أو لمنصبه الديني قد ينقاد خلفه كثيرون؛ بحجة أن قائلها فلان أو علان، أو كخطيئة التعميم التي وقع في شراكها "كارل ماركس" الذي قال قولته المشهورة: "الدين أفيون الشعوب"، الدين حكم ومواعظ تردد على المنابر الدينية في الكنائس وفي المساجد وفي الأديرة، لتهدئة الناس وحثهم على السمع والطاعة.
لكن لو أعطينا فرصة لعقولنا وأعملناها جيدًا في تحليل هذه العبارة لوجدنا مقصد "ماركس" ما كان يحدث من علماء الدين في فترة، أو بتحري الدقة نهاية "العصور الوسطى"، وبداية مرحلة "صكوك الغفران" التي ندد بها "مارتن لوثر"، من يدفع يحصل على البركة، أو تسخير الدين لخدمة السياسة لتحقيق مآرب أخرى سواء لعلماء الدين أو الساسة، فهل يليق إقحام المقدس والجليل والجميل فيصبح ألعوبة في يد القبيح.
أو مثلا كالفكرة التي حدثنا عنها "إيمانويل كانط"، حينما سئل عن وجود الله قال: "الإله فكرة في أذهاننا"، فهل نأخذ هذه العبارة على عواهنها، فالأحرى والأجدر بأصحاب الفكر العقلاني المستنير أن يعرضوا هذه الفكرة للمناقشة، فهل حقا "كانط" الذي يتحدث عن نوعين من المعارف "المعارف القبلية والمعارف البعدية"، هل حقًا كان، وهو من هو في فكره العقلاني، يقول إن الله فكرة، أعتقد لو تأملنا فكر "كانط" العقلاني الذي يقول نفعل ولا نفعل احترامًا للواجب الأخلاقي، سوف نجده يقر ويؤمن بأن الإله الكامن فينا والضامن لكل حقيقة على حد تعبير "ديكارت"، لا يمكن أن يكون فكرة، وإنما حقيقة حقة نحياها ونعيشها.
أو كالذي يتحدث عن الحرية مثلا، وأن حرياتنا لا تتحقق إلا على مسرح حريات الآخرين، نعم قالها "جان بول سارتر" رائد الوجودية الملحدة، حتى وإن كان ذلك كذلك، هل نحجر على فكره ونصادر عليه، أليست هذه المقولة حقة ونحاول أن نطبقها على واقعنا المعيش، بما أن جاز لي القول، الحرية المسئولة، بمعنى أنت مارس حريتك، لكن دع فرصة ومجالًا رحبًا لعقلك لممارسة هذه الحرية، فكيف تكون حرًا وتؤذي الآخرين بهذه الحرية الزائفة، عندما يكون الآخر حرًا أصبح أنا حرًا.
أو كالذي تتعدد وتكثر كتبه ويقول عنها إنها مؤلفات وعندما تتعمق هذه الأوراق بقراءة متأنية تجدها كلامًا أجوف مفرغًا من محتواه، لا جديد بها لا فكر يناقش لا رؤية واضحة لا منهجية في الطرح والعرض لا إشكالية واضحة، ركاكة في العبارة والأسلوب، ليس بها منهج نقدي يبرز شخصيته فيه، ولا توصيات تقدم ولا نتائج، وتجدها تحصيل حاصل لا تقدم رؤية لفكرة مستقبلية تقام عليها أفكار.
ما أحوجنا لموضوعات جديدة تفيد الواقع المعيش، ما أحوجنا إلى الخروج به من أزماته المتلاحقة، فلابد من أن نساهم في حل هذه الأزمات لا أن نزيدها تعقيدًا، بمؤلفات تصبح وبالا على أصحابها وعلى حاملها أقصد الأرفف التي توضع عليها وعلى قارئها، والنتيجة لا شيء، بل هي الأشياء ذاتها، وبات عدمها أفضل من وجودها.
طبعا أنا لا أعمم الأحكام أو أصدرها على عواهنها؛ لذا أقول إلا ما رحم ربي، فكما يوجد الغث يوجد الثمين، صحيح أصبح الثمين النفيس عملة نادرة، لكنه لم يكن معدومًا، بكثير من الجهد والعناء والبحث والتنقيب سنجده.
ليس هذا الأمر مقصورًا على المؤلفات العلمية، كذلك نجد ذلك عيانًا بيانًا حتى في الأدب والشعر والنثر والفن بشتى صوره.
نجد ذلك واضحًا في الخطابات التي يظن أصحابها أنها خطابات توعوية، نعم قد تكون كذلك، لكن أين الخطاب التوعوي وقائله يحتاج إلى توعية، كالذي مثلا يتحدث عن ترشيد الاستهلاك في الكهرباء والطاقة، وتسمع له ويعجبك حديثه، وعندما تزوره في بيته تجده لا يطبق حرفًا مما يقوله، فهل هذا خطاب توعوي.
أو مثلا كشيخ يصعد منبرًا ويحدثنا عن تربية الأبناء وتنشئتهم تنشئة صالحة، وترى أبناءه في حالة مزرية يرثى لها، أو كالذي يحدثنا عن الزهد والرضا بالقليل، وقبل أن يصعد المنبر يتفق على المقابل المادي الذي سيحصل عليه جراء هذا الخطاب الزائف، أو تجده يستقل سيارة ثمنها كذا.
هل هؤلاء يقدمون فكرًا مستقيمًا يعتد به، هؤلاء إن جاز لي القول سفسطائية العصر، فلكل عصر سفسطائيوه الذين يقلبون الحق باطلًا والباطل حقًا، يقولون ما لا يفعلون، بل هؤلاء هم أراذل الناس وشر ذمتهم.
نعم نبحث عن فكر خصب ديناميكي حركي يقدم حلولًا لمشكلاتنا التي باتت ملحة، وبات حقيق علينا أن نقدم لها حلولًا منطقية عن طريق فكر عقلاني مستنير، فكر عقلاني حر، لا يقبل إملاءات من أحد اللهم إلا العقل والضمير الإنساني الفردي الذي يشكله هموم وقضايا المجتمع المحلي والمجتمع الإقليمي والمجتمع الدولي.
نعم قضايانا خطيرة وتحتاج إلى تضافر جهود المفكرين المخلصين الذين يحبون أوطانهم ويسعون سعيًا حثيثًا لفك الرموز التي يظن أن شفراتها عصية، لكن الذي يحلحلها فكر جاد فكر ينظر وينتقل من مرحلة التنظير إلى مرحلة التطبيق، من أجل إحداث تنمية مستدامة ترتقي بالأوطان وتضعها في مكانتها الصحيحة بين الأمم، نعم قضايانا كبيرة ومشكلاتنا عويصة، كتغيرات المناخ والاحتباس الحراري، كالأوبئة، كالإرهاب الذي لا يستثني أحدًا؛ سواء كانت دولًا عظمى أو دولًا نامية، يطل برأسه في كل الأماكن دونما تفرقة، مثيرًا الفوضى العارمة.
ثم مشكلات الإنسان كذات مفكرة كيف نرقى بهذا الإنسان، كيف نجعل الإنسانية تتجسد بداخله، فتسير على قدميها من خلاله، كيف نعتني بهذا العقل، كيف نغذيه حتى لا يشطح ولا يشقى، ولا يشذ بعيدًا عن الميثولوجيا والخرافات والخزعبلات، والتواكل العقلي.
وأعي ما أقول، فالتواكل العقلي صورة من صور التواكل، إعطاء العقل إجازة عن التفكير وترك دفته لمن يفكر له، وينام في سبات عميق، ويستيقظ على الكارثة العظمى الانسحاق القيمي والأخلاقي، والوقوع في براثن رذيلة التقليد الأعمى وفقدان الهوية والشخصانية.
نعم هيا معًا نفكر..
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان