أعيش بقلب رجل عجوز لم أشعر بحنان الأب يوما، فكرت كثيرًا أن والدى يكرهنى فقدومى إلى الدنيا كان على حساب حياة أمى فقد ماتت وهى تلدنى فحملنى والدى وزر موتها وبرغم أنه تزوج ورزقه الله بالبنين والبنات لم يغير معاملته لى.. كنت أراه يحنو على إخوتى بقلب الأب دونى فتشتعل نيران الحرمان فى قلبى يتما ووحدة.
عشت فى الدنيا وحيدا يفترس الخوف صدرى وأصرخ مزعورا حتى يتلاشى الصوت منى أمام لكمات والدى وصفعاته الموجعة على وجههى.
كانت زوجته تشفق على أكثر منه.. تنهره.. تقول له كيف تضرب صغيرا يصحو من نومه مذعورا ؟ هل ضاعت الرحمة من قلبك؟
ربما كان لشفقتها هذه شعاع نور يمتد من مشكاة رحمة الخالق بعباده يستقر فى قلبها وهى ليست أمى، تعطينى مصروفا كأبنائها وأبى يحرمنى، لا تفرق فيما تعطيه لأولادها وما تعطينى غير أنها لم تستطع أن تثنى والدى عن قراره بإخراجى من المدرسة قبل أن أكمل دراستى الثانوية.
أخرجنى أبى إلى الشارع صغيرا أطرق أبواب الرزق صبيا فى ورش الميكانيكا وإصلاح السيارات لا يبالى بشىء غير أن يأخذ منى "شقي" الأسبوع بضع جنيهات لا يترك لى منهم غير ما يكفى بالكاد طعامى طول النهار.
رغم السواد الشديد فى عينى لكنى كنت أتطلع لنقطة ضوء تتراءى من بعيد تبعث فى قلبى الأمل انتظارا لغد أفضل.
مرت الأيام ثقيلة قاتمة ليلها سهاد ونهارها كد و شقاء حتى انقضت سنوات البراءة و الصبا .. اشتد ساعدى وبت أسطى ميكانيكى بل واستطعت أن أنعزل عن والدى وجبروته وأعيش حياتى دونا منه وقسوته .. مهدت لنفسى بيتا وعمرته بالزواج من فتاة كانت ترياقا لنفس تسممت حرمانا ويتما عبر سنوات العمر الضائعة.
جمعتنا قسوة الأيام و وحشة الشارع فقد كانت تعمل فى محل لملابس السيدات، وحيدة أمها تجرى عليها بعد وفاة الأب.
وبرغم يقينى من موقف والدى دعوته لمباركة زواجى وأن أتشرف به أمام عروسى فما كان منه إلا أن طردنى من بيته وقال إنه لفظنى من حياته عندما انعزلت عنه وقطعت عنه الراتب الذى كنت أدفعه له أسبوعيا من عملى فى الورشة.
لم يكن غريبا على موقفه فهناك ما هو أكثر من الظلم نفسه قد فعله معى عندما حرمنى من ميراثى عن أمى رحمها الله و احتسبت حقى عند الله مفوضا له أمرى .. ولكنى قررت فى ذلك اليوم ألا يري وجهى مرة ثانية واعتبرت أنى يتيم الأب والأم معا.
عشت حياتى بروح الأمل أشعل النهار عملا و كدا حتى امتلكت ورشة خاصة بى وتيسرت أحوالى المادية و أدخلت أولادى مدارس خاصة لا أحرمهم مما حرمتنى منه الأيام .. و نسيت عبر سنوات مضت والدى و قسوته حتى أشقائى نسيتهم فلم يكلف واحد منهم نفسه أن يسأل عنى أو عن أولادى .. كأن القدر الذى أراد لى الشقاء فيما مضى من عمر يأبى أن يغادرنى شقاؤه و يعيد لى كأس العذاب أتجرعه من جديد فقد جاءتنى زوجة أبى تطرق بابى لأول مرة .. لم تأت زائرة و لكنها أخبرتنى بأن والدى افترسه العجز طريحا بعد تعرضه لجلطة بالمخ أفقدته القدرة على الكلام و الحركة و فى حاجة لعلاجات شهرية باهظة التكاليف .
كانت زوجة والدى تجهش بالبكاء و هى تحكى لى كيف أن مال والدى قد ضاع و لم يبق له غير معاش لا يكفيه قوت يومه و أن أولادها قد غلبهم العقوق و غرق كل منهم فى حياته لا يعرف أن له أبا أو أما .
قالت لى زوجة أبى إنها كانت لى أما، وترفقت بى صغيرا و هى الآن قد وهنت و لم تعد تتحمل و تريد منى أن أترفق بها و والدى فى شيخوخته ومرضه.
لم يرق قلبى لها و لم أشفق على والدى ما وصل إليه من عجز و مرض بل صورت لى نفسى أبتهج لحاله شماتة فيه لقهرى فى صباى وقسوته على.
تركت زوجة أبى تخرج من عندى خالية الوفاض بلا أمل صفر اليدين تحيطها الحاجة بسياج من اليأس وقلة الحيلة، وبقدر غلظتى معها كنت أتعذب من نفسى و السواد الذى احتل القلب منها.
كنت أرى صورة والدى وهو فى قوته وظلمه تسكننى، تحتلنى، وكأنى بت مثله بلا قلب أو ضمير، لقد خفت منى وارتعدت خشية أن أكون من أولادى مثلما كان أبى منى قسوة وغلظة أو يكون أبنائى منى مثلما كنت أنا وأشقائى منه عقوقا وجحودا وخسة.
سيطرت على نفسى الأمارة بالسوء بعض الوقت فجمدتنى عن اتيان الخير و التحلى بالصفح و أن أذهب لوالدى أحسن إليه كما أمرنى ربى لا أعامله كما عاملنى.. و لكنى فى النهاية انتصرت للخير فى نفسى و ذهبت إليه، نسيت قسوته، أرانى طفلا يعدو فى براءة سنه مهرولا لحضن أبيه، أطوى سنوات العمر الضائع كراهية و أعدو بالحب يسبقنى حتى وصلت إليه يرتجف قلبى .. و لكنه لم يكن هناك .. خلا فراشه حتى من وهنه و مرضه .. لم يعد فى الدنيا أثر لقسوته إلا فى قلبى يعتصر ندما أنى تأخرت عليه ......!!
مات أبى غاضبا على أنا من كنت أحلم يوما بحنانه يرنو منى .. بت يتيم الأب و الأم طريد الراحة ما بقى لى من عمر .
أجلد نفسى ليل نهار أنى أطعت ما أمرتنى من سوء فى حق والدى ، لقد أعطانى الله المال فبخلت به على والدى فكيف يبارك لى فيه ربى ..
و أعطانى الولد فلم أكن لهم القدوة الحسنة وأريتهم عقوقى لأبى فهل أنتظر منهم وفاء؟
ك . م
ترفق بنفسك لا تجلدها ندما وحسرة فرحمة ربك تشمل كل عباده و ما طرق بابه عبد و رده خائبا فأبواب المغفرة والرحمة مفتوحة دائما وصدق المولى عز و جل فى قوله - تعالى - : ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53]، و ما كان أمرك مع أبيك بالأمر الهين فهو سامحه الله أثقل نفسك بظلمه وقسوته منذ نعومة أظافرك وكان من الممكن مع هذه التربية المختلة أن تخرج للحياة إنسانا غير سوى أو مجرما مجردا من كل أسباب الرحمة التى تسكن قلبك الآن ندما وحسرة لجفائك مع أبيك ولعل بذرة الحنان والعطف التى بذرتها فيك أمك البديلة وهى زوجة أبيك هى التى صنعت منك إنسانا سويا ناجحا فى حياته استطاع أن يحقق من الفاعلية فى الدنيا ما فشل فيه أشقائه المميزون عنه فى حب أبيهم.
ولعلك قد حصلت على حظ يوسف عليه السلام فى الدنيا من دون إخوتك برضا ربك و رضا أبيك الذى أفاق من غيه و أراد رؤيتك فى مرحلة عمره الأخيرة و ربما عندما جاءتك زوجة أبيك ترجوك مساعدته أن يكون هو من أرسلها على استحياء فهو فى النهاية أب يحب ابنه وإن كان قاسيا عليه .. ثق يا أخى أنه مات وهو راض عنك رغم جفائك وعليك واجب نحوه أن تسامحه على ما قاسيت منه وتألمت، فرضا الله عنك مرهون برضا والدك ووفائك له.
أما أمر قسوتك وإهمالك له حتى مات دون أن يراك فتوبة نصوح تجلب لك رحمة الله ومغفرته إن شاء الله مصداقا لقول الله تعالى ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].