الشواهد الباقية من آثار الفن الإسلامي في إسبانيا وتركيا والمتاحف الأوروبية تظهر مدى ما تمتعت به الحضارة الإسلامية من عناصر إبداع مبهرة، ولا أدل على هذا من أن الأندلس وبغداد وإسطنبول وسائر عواصم الخلافة الإسلامية ظلت لعدة قرون مقصد طلاب العلم والفن في كل المجالات، وأن كل شهادات المستشرقين، حتى الغلاة منهم، أجمعت على أن المعمار الإسلامي تربع على قمة أشكال المعمار وقتذاك، وأن أروع شواهد الإبداع في الزخارف الإسلامية كان هو الخط العربي.
أواخر مارس من عام 2020 شهد الاعتراف المتأخر جدًا لمنظمة اليونسكو لإدراج الخط العربي على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي في 16 دولة عربية.
والحق أن هذا الاعتراف لم يحدث إلا تحت ضغط من المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "الألسكو" بناءً على اقتراح تقدمت به المملكة العربية السعودية بهذا الشأن، وكأنَّ آلاف أو قل ملايين الشواهد التراثية والآثار المعمارية والمخطوطات التاريخية المكتوبة بهذا الخط، الذي يعد الأقدم والأهم والأجمل بين سائر الخطوط، لم تكن تكفي أن تتخذ منظمة اليونسكو مثل هذه الخطوة مبكرًا بشكل تلقائي ودون ضغوط!!
القلائل من المثقفين مَن يعرفون مدى عمق تأثير الفن الإسلامي على سائر أنواع الفن الغربي المعاصر، وكيف أن الكثيرين من رواد الحركة الفنية المعاصرة مثل ماتيس وبول كيلي ومونييه وديلاكرو وغيرهم تأثروا بالفن الإسلامي، ودرسوا طرق الزخرفة والكتابة العربية.
هذا ليس كلامي، وإنما شهادة حق نادرًا ما تتلقاها من المنصفين من المستشرقين الأوروبيين؛ أمثال هنري لويرت مدير متحف اللوفر، والذي أكد أن الكثير من فناني الغرب خاصةً فناني القرن العشرين؛ أمثال كاندينسكي ودوترمونت وميتشو وغيرهم؛ مثّل لهم الفن الإسلامي وزخارفه وخطوطه الرائعة مدخلًا واسعًا لعمليات الابتكار وخلق الأفكار الإبداعية الجديدة.
ويعترف "ماتيس" قائلًا: إن الإلهام يأتيه دائمًا من الشرق وبالتحديد من الفن الإسلامى، وكل هذا لا يضيف جديدًا لحقيقة أن الفن الإسلامي، وفي القلب منه الخط العربي، مثَّل حجر الزاوية في عمليات الترقي التي نالت أنواعًا ومراحل مختلفة من تطور الفنون العالمية سواءً في مجال المعمار أو الرسم أو الزخرفة أو التدوين، وأننا قصَّرنا كثيرًا في تأكيد هذه الحقيقة والبناء عليها!!
خط خلده القرآن الكريم
الخط العربي له خصوصيات جعلته متفردًا بين سائر الخطوط في العالم كله؛ بدءًا من كونه واحدًا من أقدم وأرسخ الخطوط جميعًا، وأن عمليات التطوير والتحديث المستمرة في أنواعه أفرزت عددًا هائلًا من الخطوط العربية يصعب حصره حقًا.
إنني لا أتحدث عن الخطوط الأساسية المعروفة والمتداولة بيننا اليوم فقط، بل والأنواع النادرة والمجهولة، إلا لكبار الخطاطين المتخصصين؛ ومنها القديم والحديث والإلكتروني؛ بحيث لا أكاد أبالغ إذا قلت إن عدد هذه الخطوط إذا تم حصره فسيصل إلى مئات الأنواع والأشكال المختلفة للخط العربي شديد التنوع والثراء.
وصفة القِدم ليست السمة الوحيدة المميزة للخط العربي، وإن كانت الأهم؛ إذ أتاحت له الفرصة لينصهر ويتطور باستمرار حتى يصل إلى ما وصل إليه الآن من روعة، والباحثون يعودون بالخط العربي إلى عهد نبي الله إسماعيل، وإن كان الذي وضع له القواعد الهندسية والأوصاف القياسية هو الوزير العباسي أبوعلي محمد بن مقلة، الذي نبغ في كتابة الخط الثلث، وابتكر خط النسخ، وأدخله في الدواوين الحكومية، ثم جاء بعده علي بن هلال؛ المعروف بابن البواب ليهذب قواعد ابن مقلة، ويضيف عليها وينشئ مدرسة خاصة للخط استمرت وتطورت منذ العصر العباسي إلى اليوم.
الأنواع القديمة من الخط العربي تعددت واختلفت أسماؤها عما هو الآن، وكان هناك خط المتن والريحاني والرقاع والطومار والرياسي والمدور والقيرواني والأندلسي، ويقال إن أصل هذه الخطوط كلها وأولها هو خط المسند، وهو خط أهل اليمن، الذي عُرف في الجاهلية واستمر قليلًا لما بعد الإسلام، الآن استقرت الخطوط على أنواع رئيسية هي النسخ والرقعة والثلث والديواني والفارسي والكوفي والطغرائي والخط الحر، وأنواع أخرى فرعية مستمدة في أكثرها من تلك الخطوط نفسها، وكل يوم نسمع عن خط جديد من الخطوط الطباعية الإلكترونية تم ابتكاره، وهو الشكل الأحدث للخط العربي المعاصر.
ولاشك أن نزول الوحي، وتسجيل آيات القرآن الكريم، ثم تطور عمليات النسخ والتدوين والكتابة في كل عهود الإسلام جعل الخط العربي يتربع على قمة الأولوية والأهمية بين سائر أنواع الفنون الزخرفية قديمًا وحتى اليوم.
هكذا تمتع الخط العربي بسمة أخرى جعلته يصل إلى أرفع المراتب وهي أنه الخط الذي تشرف بنقل رسالة السماء إلى أهل الأرض، فبات بهذا الشرف هو الخط الأسمى والأفضل؛ لأنه يحوي في طياته نورًا معنويًا داخليًا يضاف إلى ما فيه من جماليات شكلية ومظهرية جلية.
مأساة العصر..
في أوروبا صرخات تعلو وترتفع تنادي بعودة استخدام القلم بعد طغيان استخدام شاشة اللمس في الآيباد واللاب توب والجوالات، وكيف أن مثل تلك الرفاهية خلقت جيلًا من الأطفال الكسالى، بل والجهلة في استخدام المهارات اليدوية، وعلى رأسها فنون الكتابة!!
في مصر والدول العربية لدينا مثل هذه المعاناة أيضًا؛ نعم هناك مادة يتم تدريسها بصفوف التعليم الأساسي اسمها مادة الخط العربي، يتم فيها التركيز على خطي النسخ والرقعة، لكن ماذا عن الثمرة؟!
لو أنك حاولت إجراء مسح ميداني على سائر الطلاب في مختلف مراحل التعليم ستكتشف أن الأغلبية منهم ذو خط سيئ للغاية، إن كانوا يجيدون الكتابة أصلًا!! وأن أقل القليل يتمتعون بحسن الخط، فما السبب؟ إن السبب الواضح جدًا هو أن مادة الخط العربي مادة بلا مدرسين، وأن مدرسي اللغة العربية القائمين بتدريس هذه المادة ليسوا مؤهلين لتدريسها؛ بسبب سوء خط أكثرهم، إلا القليل منهم ممن اهتموا بصقل موهبتهم بشكل فردي!! ولو أنك أردت تحسين خط أحد أبنائك اليوم فإلى أين ستتجه؟ هل هناك اهتمام حقيقي بتأصيل وتدريس الخط العربي بأنواعه بين الأطفال؟ هل توجد مدارس للخط العربي في كل مدينة وقرية، كما كان الأمر قديمًا؟!
إننا نملك كنزًا تراثيًا عظيمًا أهملناه أيما إهمال، بدلًا من أن نبحث كيفية استغلاله وتطويره، وعلينا أن ندرك أن تمسكنا بمثل هذا الفن الأصيل، فن الخط العربي، من شأنه أن يصل بنا وبه إلى العالمية، بعد أن اعترف به العالم كتراث عالمي عريق.
عالمية فن الخط تبدأ من هنا
لو أنك استرجعت تترات المسلسلات والبرامج والأفلام من السبعينيات وحتى التسعينيات، ستجدها مكتوبة يدويًا بيد الفنان وشيخ الخطاطين المصريين خضير البورسعيدي، ولدينا في مصر عشرات أمثاله، لكنهم مجهولون؛ لأنهم بعيدون عن دائرة الإعلام!!
وإذا بحثت اليوم عن الزخرفة الإسلامية في معمارنا الشرقي الحديث ستكتشف أنها مهملة إلى أبعد الحدود، وأن الفنون الغربية طغت على المظهر العام للمعمار عندنا؛ بحيث لا يمكنك أن تجد فيه الطابع الشرقي الإسلامي إلا نادرًا، والأمر لا يقتصر على هذا، بل إن الغالبية العظمى من نخبة الفنانين العرب يحتقرون الخط العربي، ولا يعترفون به كنوع من الفنون الإبداعية الجميلة أصلًا، ويرون أن الغرب هو مصدر الفن العصري الآن، وأن السبيل للعالمية يبدأ من تقليدهم لفنون الغرب، لا من التمسك بالفنون الشرقية والإسلامية وتطويرها إلى حد المنافسة مع الغرب بما نبرع فيه منذ قديم الأزل!
الخط العربي هو فن من أهم الفنون الزخرفية الإسلامية، لا يحتاج منا إلى تزكية ليصبح فنًا عالميًا، بل هو بالفعل فن عالمي باعتراف كبار فناني الغرب، والطريق إلى تأصيل هذه الحقيقة يبدأ من إزالة غشاوة التبعية للغرب والتماهي معه، لندرك أن لدينا قدرات فنية موروثة أهملناها طويلًا، وآن الأوان لإعادة إحيائها وتطويرها، ووضعها على خارطة المنافسة العالمية.
[email protected]