تواجه المملكة المتحدة، حلقة من أعمال الشغب لم تشهدها منذ عشر سنوات، حيث جرت أعمال عنف بسبب الإسلاموفوبيا والمشاعر المعادية للمهاجرين، بعد حادث ساوثبورت فى 29 يوليو الماضي، عندما قام مراهق بطعن ثلاث فتيات صغيرات فى حفل راقص، وتردد خطأً على وسائل التواصل الاجتماعي، أنه مهاجر مسلم، ما أشعل فتيل العنف حتى بعد التأكد أنه مراهق بريطانى من أصول رواندية ولا علاقة له بالإسلام، وبرغم ذلك استمرت المظاهرات، وشهدت المسيرات اشتباكات مع الشرطة وشعارات مناهضة للهجرة وعمليات نهب وتعرض مسجد وفندق يأوى المهاجرين للتخريب.
موضوعات مقترحة
جاءت هذه الاحتجاجات العنيفة فى جميع أنحاء المملكة المتحدة على يد رابطة الدفاع الإنجليزية، وهى مجموعة يمينية متطرفة مناهضة للهجرة ومعادية للإسلام ومتهمة بأنها القوة الرئيسية وراء هذه المظاهرات العنيفة. هذه الحركة التى أسسها تومى روبنسون عام 2009، أصبحت معروفة على المستوى الوطنى فى لوتون حيث اجتذبت هذه المجموعة الصغيرة العديد من الأعضاء خلال هذه الفترة، ثم نمت فى جميع أنحاء البلاد من خلال التظاهر بانتظام ضد الهجرة و"أسلمة" المملكة المتحدة.
وتصدرت رابطة الدفاع الإنجليزية عناوين الأخبار مرة أخرى خلال أعمال شغب بعد وفاة رجل أسود أثناء اعتقاله من قبل الشرطة، حيث تقوم الحركة بتشكيل "ألوية" من أجل "الدفاع" عن "البريطانيين أصحاب البلد" خلال هذه الاضطرابات التى يقوم بها "المهاجرون" والتى تؤدى إلى نهب وتدمير المنازل والمتاجر.
وكان أندرس بريفيك منفذ الهجوم اليمينى المتطرف فى النرويج والذى خلف 77 قتيلاً قد وصف رابطة الدفاع الإنجليزية، بأنها "نعمة لأوروبا بأكملها" وذلك قبل أربعة أشهر من مقتله. وشهدت الجماعة انتعاشًا لفترة وجيزة فى عام 2013 بعد اغتيال جندى على يد إرهابيين، ولكنها سرعان ما اختفت بعد ذلك وفى عام 2023 تصدرت المجموعة الصغيرة عناوين الأخبار مرة أخرى بعد اشتباكات ضد نشطاء مؤيدين للفلسطينيين.
وزعم المشاركون فى الاحتجاجات العنيفة التى جرت الأسبوع الماضى فى جميع أنحاء إنجلترا أنهم أعضاء فى رابطة الدفاع الإنجليزية والتى لا تزال بعض الشخصيات التاريخية فيها تتمتع بنفوذ قوى على شبكات التواصل الاجتماعى، كما أنها تقف وراء أعمال الشغب الأخيرة الناجمة عن هجوم الطعن فى ساوثبورت والذى تم مقارنته بأحداث العنف التى اندلعت فى المملكة المتحدة عام 2011.
لكن من المثير للاهتمام، أن مقارنة هذين الحدثين اللذين بصرف النظر عن حجمهما ليسا متشابهين بأى حال من الأحوال. فأحداث الشغب التى اندلعت عام 2011 جاءت بعد مقتل مارك دوجان على يد الشرطة، إذ إنه بريطانى من أصل هندى وأب لأربعة أطفال، وكان يشتبه فى أنه مهرب كوكايين. أما أعمال الشغب الحالية فلا دخل للشرطة بها، بل على العكس فهى أعمال شغب بسبب تراخى الشرطة تجاه ما يحدث من كراهية للمهاجرين. فمعظم مثيرى الشغب هنا من البيض فى حين كان مثيرو الشغب فى عام 2011 من خلفيات مهاجرة فى المقام الأول.
التغيير فى ثلاثة عشر عاما
هناك عدد من العوامل، تقف وراء هذا التغيير أكثرها وضوحا، هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. فمنذ عام 2016 أصبحت البلاد أكثر فقرا ومنعزلة وتغذيها الأطروحات المناهضة للهجرة التى يتبناها أولئك الذين شاركوا فى مغادرة الاتحاد. لقد جعل حزب المحافظين البريطانى هذا الموضوع، أحد الموضوعات الرئيسية لحملته الانتخابية مما ساعد على تعزيز مناخ معين من كراهية الأجانب وهو ما تجسد فى التصويت فى الربيع الماضى لصالح قانون "رواندا" فى ظل حكومة ريشى سوناك السابقة من أجل طرد طالبى اللجوء إلى رواندا بموجب اتفاق -متنازع عليه - ولم يتم تنفيذه.
ومن الواضح أن اليمين المتطرف، الذى تعززت قوته كما هى الحال فى كل مكان فى أوروبا يستغل هذا الاستياء المناهض للهجرة بمساعدة الشبكات الاجتماعية، حيث أصبحت المعلومات المضللة والأخبار المزيفة الآن، أكثر سيطرة بكثير عن ذى قبل، فكل ما يتطلبه الأمر هو خبر واحد حتى يشتعل كل شيء. بالضبط كما حدث فى دبلن فى نوفمبر الماضى بعد هجوم بسكين خارج مدرسة ابتدائية، حيث أصيبت امرأة وثلاثة أطفال على يد رجل فى الأربعينيات من عمره والذى وصفته الشائعات أيضًا بأنه مهاجر.
السؤال الذى يطرح نفسه على الساحة الآن: هو هل تتحول المملكة المتحدة إلى اليمين المتطرف؟
المتأمل للأحداث الأخيرة، يرى أن أعمال الشغب المستمرة تثير بشكل مؤلم، مسألة نفوذ اليمين المتطرف فى المملكة المتحدة، وهو النفوذ الذى يجب ألا يحظى بالوجود فى بلد يحب أن يتذكر تقاليده من الاعتدال السياسى وماضيه فى مقاومة النازية، لكن الواقع يؤكد أن الحركة العنصرية والمعادية للمسلمين هناك تنشط وتزدهر بقوة أكبر، حيث لعب المحافظون الذين كانوا فى السلطة حتى يونيو الماضى بالنار باستخدام سجل كراهية الأجانب، وبالتالى فإن الاحتجاجات العنصرية المتزايدة بشكل علنى مع الهجمات المستهدفة ضد الأقليات تشير إلى إعادة تنشيط لحركات اليمين المتطرف النشطة والعنيفة، حيث ظهرت الجبهة الوطنية البريطانية العنصرية والمعادية للمهاجرين والمرتبطة بثقافة حليقى الرؤوس فى ستينيات وسبعينيات القرن العشرين والتى اكتسب الحزب الوطنى البريطانى الذى انبثق عنها شهرة فى أوائل العقد الأول من القرن الحادى والعشرين والذى شهد أيضا ظهور مجموعات جديدة أكثر انتشارًا مرتبطة بعالم الشغب مع حركات مثل رابطة الدفاع الإنجليزية ومعاداة الإسلام وأخيراً مجموعة النازيين الجدد "البديل الوطني".
كل هذه المجموعات الصغيرة تغذيها عدة شخصيات أشهرها نايجل فاراج زعيم حزب الإصلاح الذى انتخب نائبًا - بأغلبية ساحقة - لأول مرة خلال انتخابات 4 يوليو حيث أشارت تصريحاته الأولى إلى أن الشرطة أخفت عن عمد حقائق معينة عن السكان فى إشارة إلى أن منفذ الطعن للفتيات الثلاث، هو مهاجر مسلم.. وحتى لو تراجع فى وقت لاحق ودعا إلى الهدوء فقد أشار مرة أخرى إلى "الهجرة الجماعية" فى المملكة المتحدة، وبالتالى لابد من التركيز على تأثير كلماته على السكان المتحمسين من خلال إطلاق خطاب معادٍ للأجانب.
هناك أيضا تومى روبنسون المعروف أيضًا باسم ستيفن ياكسلى لينون، هو ناشط سياسى بريطانى يمينى متطرف، وكان أحد مؤسسى وزعيم رابطة الدفاع الإنجليزية فى الفترة من 2009 إلى 2013 وكان هدفها المعلن آنذاك هو مكافحة أسلمة إنجلترا. وتمت إدانته وسجنه عدة مرات بتهمة الشغب والاعتداء على ضابط شرطة والاحتيال والإخلال بالنظام العام، وتم حظره من تويتر وإنستجرام وفيسبوك بسبب تعليقاته.
وفى الأشهر الأخيرة قام بتنظيم مظاهرات، وقام بتغذية شبكات التواصل الاجتماعى بكثرة برسائل تتعلق بالاشتباكات. ويمكنه الاعتماد على العديد من المؤيدين الأقوياء مثل الممثل الجمهورى عن ولاية أريزونا بول جوسار أو النائب الهولندى خيرت فيلدرز من حزب الحرية وأخيراً إيلون ماسك نفسه الذى أعاد حسابه على موقع "اكس" تويتر سابقا.
ويبدو أن إيلون ماسك مهتم جدًا بما يحدث فى إنجلترا، حيث نشر عدة منشورات تشير إلى مخاطر الهجرة الجماعية كما أنه يشبه إلى حد كبير ستيف بانون المستشار السابق لدونالد ترامب، فجميعهم أشخاص يصبون الزيت على النار، ولديهم كل المصلحة فى إثارة اليمين المتطرف فى أوروبا ولاسيما بريطانيا وذلك بعد فوز حزب العمال برئاسة الحكومة منذ أربعة أسابيع بزعامة كير ستارمر، والذى يواجه أزمته الأولى بعد أن أنهى أربعة عشر عامًا من حكم المحافظين ببرنامج وسطى للغاية ركز فيه على النظام والعدالة ومكافحة العنف لتأتى الأحداث عبارة عن انفجار عنيف وغير مسبوق حيث يجمع ثلاثة مكونات سياسية أكثر انفجارًا: انعدام الأمن والهجرة واليمين المتطرف ما جعله يصف أعمال العنف بأنها بلطجة ويرحب بقرارات الاعتقال التى طالت العديد من المتورطين إلا أن كل ذلك لم يحمه من انتقادات المعارضة المحافظة واعتبرت رد فعله متأخرا. ولذلك فإن التحديات هائلة بالنسبة لكير ستارمر إذ يتعين عليه أن يوقف العنف وأن يصمم سياسة هجرة إنسانية وخاضعة للرقابة، وهى السياسة التى فشل أسلافه فى تطويرها.
التطرف فى سن الأربعين
تشير لقطات الاشتباكات العنيفة التى وقعت فى إنجلترا وأيرلندا الشمالية أيضا إلى ملاحظة غريبة وهى أن المشاغبين الذين شوهدوا وهم يتقاتلون ويصرخون بإهانات عنصرية ويهاجمون الشرطة ويشعلون النار فى المبانى معظمهم فى الأربعينيات أو الخمسينيات أو حتى الستينيات، لدرجة أن كثيرا ممن تم القبض عليهم يقعون فى هذه الفئة العمرية، بل إن أحدهم يبلغ 69 عاما، الأمر الذى يشير إلى أن تطرف الأشخاص فى الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من عمرهم، هو ظاهرة ناشئة لكنها مهملة تم تسليط الضوء عليها خلال أعمال الشغب الأخيرة.
ومما لا شك فيه أن الاشتباكات الحالية، أشعلتها شائعات كاذبة على شبكات التواصل الاجتماعي. وتشير الأبحاث أن هذه الفئة العمرية أكثر عرضة من غيرها لتبنى المعلومات الكاذبة ونظريات المؤامرة، لأنهم أقل وعيًا بمخاطر المعلومات المضللة عبر الإنترنت من الشباب، فهناك جهود كبيرة تُبذل لتعليم الشباب كيفية التنقل عبر الإنترنت بأمان ولكن الأشخاص فى منتصف العمر يفشلون فى ذلك لأنهم كبالغين علموا أنفسهم بأنفسهم، ونتيجة لذلك قد يكون بعضهم عشوائياً بشأن ما يرونه عبر الإنترنت وهذا يمكن أن يدفعهم إلى اتخاذ قرارات ذات عواقب وخيمة مثل المشاركة فى اضطرابات عنيفة أو مهاجمة مسجد أو فندق يأوى طالبى اللجوء بناءً على معلومات كاذبة أو تكهنات موجودة على الإنترنت مثلما حدث أخيراً.
وغالبًا ما تكون الفئة العمرية ما بين 40 و65 عامًا منخرطة سياسيًا وتميل إلى الذهاب إلى صناديق الاقتراع، ولذلك فهى تتمتع بثقل وفى كثير من الأحيان بأفكار سياسية قوية ومع ذلك فهى غير مرئية كما أنها ليست المستهدفة بأى خطاب يناقش أزمة السكن أو تكلفة المعيشة أو النظام الصحى فلقد كان الشباب هم الهدف المفضل لوسائل الإعلام.
ولأن هناك شريحة كاملة من السكان هى التى يتم استبعادها أو تهميشها ثقافيا جاءت المفاجأة أن كبار السن هم من كانوا فى طليعة التطرف عبر الإنترنت. فعندما يتم تجاهل أى مجموعة فإن الشعور بالإقصاء والعزلة يدفعها إلى وسائل التواصل الاجتماعى وهناك يتم تأجيج السخط وتشجيعه ويتم دفع الناس للتعبير عن غضبهم والتفاعل مع أقرانهم من نفس الفئة العمرية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد يسعون إلى الاعتراف والتأثير من خلال إنشاء محتوى يعكس رؤيتهم للعالم، لكنه غالبًا ما يستند إلى ادعاءات كاذبة أو عملية زائفة وعادةً ما يكون الأشخاص فى منتصف العمر غير مرئيين فى وسائل الإعلام وفى المجتمع ككل وهذا يعنى أنه يمكنهم التأثير على الناس بينما يظلون على الهامش. ومن طبيعة الإنترنت أن المعلومات تتدفق بحرية ويكاد يكون من المستحيل منع انتشار الأكاذيب والشائعات وكلما كانت مشحونة بالعاطفة زادت مشاركتها. وهذه المعلومات الكاذبة عندما تكون فى أيدى مجموعة لا تملك بالضرورة كل مفاتيح فهم الإنترنت يمكن أن تكون خطيرة كما حدث أخيرا فى بريطانيا.