Close ad

التحدي والبقاء.. أزمة مراكز الدراسات العربية

22-8-2024 | 16:28

بات واضحًا هذا النوع من القسوة إزاء عمل مراكز الدراسات في العالم العربي، والتي غاب عنها التمويل، وفقدت الطلب، وعزوف الخبراء الذين وجد معظمهم ضالته في الاستضافات الفضائية.. ربما حدث هذا بسبب التغيرات السياسية، أو التقدم التكنولوجي المتعاظم، والسرعة في تلخيص المواقف والاستحواذ على الاهتمام والقدرة على الجذب، مما تتميز به الشاشات.. بينما كان من المفترض أن يكون الطلب عليها الآن أكثر من أي وقت مضى، وسط عالم شديد التعقيد، على المستوى الدولي، وشديد الحساسية على المستويات الأخرى الإقليمية والمحلية..

كنت أتحدث أخيرًا مع الدكتور المحامي صالح بكر الطيار رئيس مركز الدراسات العربي الأوروبي، لأجده مهمومًا باستكمال رسالة المركز، في حياته، ومن بعده، بينما يسعى لتنظيم ندوة في القاهرة لإحياء ذكرى تأسيس المركز الذي بدأ نشاطه قبل أربعة وثلاثين عامًا في باريس، وأزعم أنني كنت شاهدًا ومشاركًا في الكثير من أنشطته، هنا في القاهرة أو في باريس.

 لقد تأسس المركز عند التقاء حدثين في غاية الأهمية، غزو العراق للكويت الذي فرط عقد العالم العربي، وانهيار الاتحاد السوفيتي الذي فكك العالم الذي نعرفه، وقادنا للمرة الأولى في التاريخ، وبشكل مطلق إلى عالم أحادي القطبية، ما الذي يمكن أن تفعله غرفة صغيرة مطلة على جادة الشانزليزيه ومحطة مترو أنفاق فرانكلين روزفلت إزاء الانفجارين الكبيرين؟! يعترف الطيار بدور الداعمين من المفكرين العرب خصوصًا المصريين، د.عصمت عبدالمجيد الذي تولى منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية، ود.مفيد شهاب أستاذ القانون وعميد الحقوق ورئيس جامعة القاهرة، وخبراء ومفكرين سعوديين ومصريين ومن لبنان وليبيا، ومن الدول الأوروبية.

بدأ المركز بعقد ندوات لاختبار قدراته أولًا، وقياس نبض التفاعل العربي الأوروبي، حيث شارك فيها خبراء من الجهتين، وبعد أن اتضحت المعالم عقد مؤتمره الدولي الأول في باريس في يناير 1993 تحت رعاية د.عبدالمجيد، تحت عنوان "العالم العربي وتحدياته في ظل النظام العالمي الجديد". 

وكانت ملحة، طوال جلسات المؤتمر، فكرة تعزيز الروابط، وتحقيق تفاهم أفضل بين العرب وأوروبا، وتبديد المفاهيم المغلوطة بين الجانبين، ولم تكن هذه الروابط ممكنة من دون ترتيب الأوضاع الداخلية في المجموعتين، ودخلت معاهدة ماستريخت حيز التنفيذ في ذلك العام، إدراكًا من الجانب الأوروبي لأهمية التكتل في عالم ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وماستريخت هي النواة الحقيقية للاتحاد الأوروبي فيما بعد، بينما لم تدخل حيز التنفيذ أي معاهدة أو اتفاقية عربية تقود إلى حضور عربي فاعل ومتماسك في عالمنا المعاصر، وهو ما نعاني منه الآن.

رغم ذلك مضى المركز بقيادته ومفكريه في عقد مؤتمراته الدولية، مرة في عاصمة أوروبية وأخرى في عاصمة عربية، طارحًا أفكاره ودراساته ومقدمًا توصياته.. عقد تسعة مؤتمرات، في باريس والقاهرة ودبي والدار البيضاء وبروكسل والمنامة وبيروت، عن التحديات الاقتصادية، المائية، والإعلامية، والإرهاب، ومستقبل القدس، وآفاق وضمانات الاستثمارات العربية الأوروبية، وأتاح منصة حوار مع مسئولي وسياسيي العواصم المختلفة، وأقام الندوات النوعية المتخصصة، وأصدر مجلة الملف، والعديد من الكتب الفكرية والسياسية.
 
مما لاشك فيه أن المركز وجد لنفسه مكانًا وسط الحالة الفكرية العربية الأوروبية، وفي لحظة فارقة، قرر أن يشتغل افتراضيًا، كنوع من التحدي والاستمرارية، ونفذ برنامج "حوارات باريس"، التي لم تفارق أهداف المركز الأساسية التي كانت وراء نشأته، قضايا الأمن المائي، الأمن الغذائي، القدس ومشاريع تهويدها، واقع ومستقبل العلاقات العربية - الأوروبية، ومواجهة الأطماع الخارجية في الخليج العربي.

لقد دخل العالم مع الألفية الجديدة، وعبر أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وتدمير البرجين، إلى وضع جديد، تغيرت فيه البوصلة السياسية، وأصبحنا في مواجهة عالم واسع من المتغيرات التي قلبت الموازين والأسس المتعارف عليها، بينما أصبح الإرهاب الرقم الصعب في العالم.

وفي تصوري أن المركز يقاوم الفناء وسط أزمة مراكز الدراسات العربية عمومًا، وقال لي الدكتور الطيار إن إصراره الشخصي وقناعته هو ومن حوله أن مراكز الدراسات العربية مازالت ضرورة، وتبقى مهمة لأصحاب القرار، وأنه يجب دعمها سواء من قبل الحكومات أو المجتمع المدني.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: