من استغنى عنك دون مبرر استغنِ عنه دون رجعة، من اختار الجفاء أعطه ما يريد وأجزل له في العطاء، من تهاون في واجبه تجاهك قاصدًا متعمدًا أدر وجهك عنه إلى الأبد.. تخلص من مشاعرك القديمة ولا تدعها تحيرك وتطيح بعقلك.
كلمات حكيمة ذات معنى، نعم هناك أناس لا يستحقون العتاب، لكن هل يمكن أن تكون الأمور بتلك البساطة؟ إن المشاعر ليست قطعة أثاث قديمة يمكنك التخلص منها بسهولة، لأنك سوف تجدها أحيانًا لا تخرج من ذاكرتك إلا مختلطة بالدم واللحم معًا، فالعشرة ليست سهلة لمن يقدرها ويعرف قيمتها.
كيف ينسى الإنسان في لحظة من عاشوا معه سنوات وسنوات؟ صحيح أن الحياة تمارس لعبتها المفضلة فتباعد وتفرق كما تشاء، تلك هي سنتها وقواعدها التي نعلمها جيدًا، لكن هناك أمور يجب أن نتصدى لها فيها، فلا نسمح لها أن تتلاعب بنا مهما مرت السنين.
نعم قد تفرقنا الحياة، لكنها لا تستطيع أن تحرمنا الدفء والحنين عندما نتقابل، فلا نشعر بمرور السنين، لا تستطيع أن تجبرنا على تجاهل صديق كان لنا يومًا الملجأ والملاذ من همومنا وآهاتنا.. أو قريب كان لا يمر يوم دون أن نراه فنجلس ونحكي ونرسم خطى المستقبل معًا.
أصبح اللقاء قصيرًا، قد لا نلتقي إلا كل سنة وربما سنوات، في فرح أو ربما عزاء، فلماذا لا يكون لقاءً دافئًا يحمل معه أجمل الذكريات؟ هناك الكثيرون ما زالوا يلتقون على نفس الدفء ليستمتعوا بتلك الدقائق المعدودة؛ لأن بداخلهم صدق وصفاء ونقاء لا تستطيع الأيام أن تؤثر فيه.
أمور غفل عنها من لعبت الأيام بعقولهم، تلتقيهم فلا تجد منهم إلا أحوالًا قد تبدلت تبديلًا وطباعًا غيرتها الأيام تغييرًا.
نعم يمكن أن ننسى ونتجاهل الجميع، ليس الأمر صعبًا أو مستحيلًا، لكن اعلموا أن ذلك ليس صوابًا يامن تدعون إليه، هذا القريب والصديق الذي نشأت معه يومًا بيوم، لعب ولهو وشجار، حياة كاملة حفرت في ذاكرتك بكل تفاصيلها، كيف تنساه بتلك السهولة؟ كيف تمسحه من ذاكرتك وتتعامل معه كشخص عادي التقيته في الأمس القريب؟ لا.. ليس الأمر بهذه السهولة، ولن يخرج من ذاكرتك وذكرياتك إلا مختلطًا بالدماء.
تخلص من مشاعرك القديمة، وكأن المشاعر والأحاسيس قد باتت موضة قديمة لا يقدر قيمتها إلا شخص عتيق غير معاصر للزمن ومجرياته، إن كان الأمر كذلك فالأمر لله من قبل ومن بعد، طالما أصبحت المشاعر مثل الملابس والكتب القديمة مصيرها عربة "الروبابيكيا" وبائع ينادي "مشاعر قديمة للبيع" فلا عتاب إذن على أتباع ومريدي الموضة الحديثة، موضة الجفاء.
نرى من آمن وصدق بتلك الموضة الحديثة وبات من أتباعها ومريديها المخلصين، يقضى الليل متعبدًا في محرابها، لا يدركون أنها علاقات أتقنت الأيام الطويلة تفصيلها وأخذت وقتًا طويلًا لتوطيدها وتثبيت أركانها، عاصر الناس كل لحظة في عملية التفصيل حتى أصبحت العلاقة مناسبة لمقاس كل منهم، كيف ينساها بتلك السهولة؟ لو كانت بدلة عاصر صاحبها مراحل تفصيلها لما هان عليه التخلص منها بتلك السهولة، بل قد يحتفظ بها في دولابه ويذهب لزيارتها كل فترة، لا لشيء إلا ليتذكر تلك اللحظات، فما بالنا بالمشاعر والأحاسيس.
هل هي مشاعر قديمة أم بالأحرى مشاعر أصيلة، يدرك قيمتها ويحزن على افتقادها فقط من نشأت ونمت وتأصلت بداخلهم، لا من يعتبرونها مجرد مرحلة من حياتهم، مجرد محطة مروا بها في رحلتهم وربما لا يرغبون أن يتذكروها أو يروا أحدًا ممن شاركهم تلك المرحلة؛ نموذج يهدم مراحله السابقة كلما انتقل إلى مرحلة جديدة.
لكن مستحيل.. مستحيل أن يمحو المرء كل الماضي، مستحيل أن يتخلص من كل مشاعره القديمة.