أرسلت إليه برسالتها القصيرة، وانتظرت ردًا سريعًا منه، مرت دقائق تبعتها ساعات ولم يأتها منه أي رد، ثقل عليها صمته واستاءت حتى تمكن منها الغضب، طالت فترة الانتظار من دقائق وساعات إلى يوم وأيام، وهنا بسط سوء الظن عليها ظله وألبسها رداءه، راحت الأفكار السلبية تطاردها وتلاحقها، تتشعب وتتمدد، تشيد من حزنها مدنًا، فقلبها الرقيق لم يعتد الإهمال، دار حديث خافت بينها وبين نفسها، تعجبت فيه من صمت هذا الصديق الإنسان، صمته هذا الذي فسرته على أنه نوع من أنواع عدم الاهتمام المغلف بشعور من اللا مبالاة من التجاهل والنسيان.
انتقدتها الكرامة وحثتها على وضع خططها العدائية تجاهه، لكن شيئًا ما قد أوقفها بشدة، وأعادها لطبيعتها الهادئة المسالمة، أبت أن تظلمه قبل أن تستمع إلى دفاعه عن نفسه، رددت صوت عقلها وهو يكرر عليها: لا ينبغي لنا أن نظلم أحدًا، لعله يملك بعض الأعذار، أسكتت صوتًا شحنها من قبل بكل طاقته، هدأت غضبتها الكبرى، فقررت أن تعاود السؤال؛ وفي تلك اللحظة جاءها رده بكلمات مقتضبة أثارت قلقها إلى حد ما، كأن كلماته المعدودة أخبرتها بحجم ما تعرض له من ألم ومن معاناة، ثم طلب منها أن تلتقيه في مكانهما المعتاد.
ذهبت إليه مصطحبة تلالًا من تجهم، من عبوس وعتاب؛ فبادرها بتقديم الاعتذار على الفور راجيًا منها أن تلتمس له العذر، وهذا جعلها تهدأ في الحال وتستعد للاستماع لما سيقوله لها، تحدث عن شكواه من الدنيا ومن أشخاص كان قد أحسن الظن بهم ولكنهم خالفوه الظن، ثم توقف عن الكلام، وبدت حيرته عليه، فهو لا يدري من أين يبدأ وإلى أين ينتهي به الكلام؛ كان شاحبًا شاردًا، كأنه كان يفضل أن يضمد جراحه بعيدًا بمفرده، لكنه كان متعبًا، فأخبرها بأنه قد آثر الصمت على الكلام؛ خوفًا من مترصد أو شامت قد يباغته ويختطف كلمة من بين كلماته، كلمة يضعها في غير موضعها، ينسج منها قصصًا وحكايات، كلمة واحدة قد تتمدد لتتحول إلى رواية كاملة، أو عدة روايات تتناقلها ألسنة الناس من هنا وهناك.
اغرورقت عيناه بالدموع وهو يستعرض أمامها مواقفهم معه، بعد أن تكشفت له طباعهم السيئة وبرهنت مواقفهم على سوء نواياهم، وسوء عشرتهم، ملقيًا باللوم عليهم تارة، وكثيرًا من المرات على نفسه، لقد كان خطؤه هو سرعة الاطمئنان للآخرين دون مبرر، فهو من أحبهم واستأمنهم على لحظات سعادته وبعض أسراره؛ يبدو أن الدرس الذي تلقاه كان قاسيًا، وأن الصفعة التي جاءته ممن لا يتوقع منهم ذلك، نالت منه فأفقدته توازنه وقدرته على التخطي والنسيان.
الطعنة الغادرة غيرت ملامحه، أدمت قلبه ولقنته درسًا لن ينساه، جعلته يودع مرحه ويتخذ من وحدته مذهبًا يتبعه، ومن كتمانه معتقدًا يتمسك به ويمارسه.
نظرت إليه متألمة لأجله ثم قالت: يا عزيزي لقد تغير العالم من حولنا بقدر كبير، تغير في البداية بمفرده، ثم تغيرت من بعد ذلك نوايا من يعيشون فوق أرضه وتحت سمائه، عالمنا بدل قيمه وأخلاقه ومبادئه، انتزع فضائله وفرط في قوانين إنسانيته، تغيرت مفردات لغته وتعقدت فأصبحت صعبة الإدراك والفهم، -الخير لم يعد بخير- الحق هوى من علٍ تاركًا للباطل الصاعد مكانه ومكانته، كان عليك أن تحتاط أكثر من ذلك يا صديقي، كان عليك أن تعد لهم اختبارات لتختبر صدقهم من عدمه، تتفحص مقاصدهم وتجتهد في قراءة ما بين سطورهم، فالكلمات العذبة لم تكن أبدًا مقياسًا أو دليلًا على الصدق، على الوفاء والمحبة.
إن عالمنا لم يعد يستحي من الكذب كما كان في الماضي، فكم من إنسان قابلته وأعجبتك كلماته التي أجاد تمريرها عبر ابتسامات كاذبة مثله، فوجدت نفسك بعدها تسارع في الحكم عليه بأنه الودود الطيب ذو القلب النقي، أسهبت في حديثها قائلة: ثق ياعزيزي أن نجاحك وتميزك هما من كشفا لك أبعاد مؤامراتهم، إنجازاتك العظيمة هي من كشفت لك زيف محبتهم وودهم.
لا تتعجب ما دمت تتنقل في رحلتك بين بساتين نجاحاتك، المثمرة، اعلم أنك كلما حققت ذاتك صرت مستهدفًا منهم، تقيم في منطقة غيرتهم، في مرمى سهام حقدهم، لا تنتظر أكثر من ذلك وخذ قرارك باعتزالهم؛ ارحل قبل أن يعلقوا إخفاقاتهم المتكررة على جدارك، اعتزلهم قبل أن يتعللوا بأنك من سعيت لإغلاق أبواب الأمل في وجوههم.
تلك نصحيتي أقدمها إليك بكل صدق، خذ بها أو لا تأخذ فالأمر مرجعه إليك.
هل تعلم أن ما حدث معك قد حدث معي؟! لكني نهضت منه مبكرًا، وأسرعت بإسدال جميع ستائري، بعد أن قررت ألا أبقي على أحد لم يرد لي الخير.