لا يكاد يختلف اثنان أن أثمن ما في الإنسان عقله، وأن الاستثمار في العقول أهم وأفضل من الاستثمار في الأبدان والأشياء، والمال من الأشياء!
الثقافة كنزنا الذي أهملناه وأهملنا الاستثمار الصحيح فيه، وقد أعجبتني الدعوة التي دعا إليها وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو؛ إذ أمر المؤسسات التابعة للوزارة بالاتجاه نحو الاستثمار الثقافي والاهتمام بالصناعات الإبداعية، وهي دعوة رائعة تدفعنا للتفاؤل بعهد جديد لوزارة الثقافة يختلف عما قبله.
غير أن تخوفي يأتي من العراقيل التي قد تقف حجر عثرة دون تحقيق المشروع الواعد الذي يهدف إليه الوزير الطموح. وهي عراقيل أفرزتها سنوات من العمل التقليدي البطيء المستنيم لكل عيوب الماضي المتراكمة.
دعوة طموحة من وزير نشيط
المتابع لأعمال وزير الثقافة الجديد منذ توليه الوزارة يلاحظ حجم النشاط والهمة والحماسة في تحركاته وأعماله. بدأها بافتتاح الليالي المصرية الصربية، وبدت في أحاديثه للصحافة ووسائل الإعلام، وبعضها ظهر في شكل لقطات انتشرت على وسائل التواصل، حيث أثارت كلماته إعجاب سائر المهتمين بالشأن الثقافي، ولأنه وزير مختلف وصاحب رؤية يريد تحقيقها فإنه يسعى لتذليل العقبات من أجل الوصول بالثقافة إلى الرقي الذي تستحقه.
وفي الاجتماع الذي ضم عددًا من رؤساء الهيئات والقطاعات الثقافية بهدف مناقشة الخطة الاستثمارية للوزارة، قرر الوزير تشكيل لجنة لوضع آليات تطوير موضوع النشر وتنمية فكر الاقتصاد الإبداعي، واضعًا تدريب العاملين على رأس أولويات عمل الوزارة.
وقد تم عمل عرض تقديمي حول الرؤية الاستثمارية لوزارة الثقافة هادفًا تحقيق الاستفادة القصوى من الموارد والأصول التي تملكها الوزارة، من خلال عقد شراكات مع مؤسسات محلية ودولية تعمل بالمجالات الثقافية المختلفة.
الاجتماع اهتم بتغطية عدة محاور مهمة، أذكر منها محور التسويق، حيث شدد الوزير على أهمية استخدام الوسائل الحديثة في التسويق للمنتجات الثقافية، خاصة منتجات الحرف التراثية والتقليدية ومستنسخات قطاع الفنون التشكيلية.
المحور الثاني الذي ركز عليه الاجتماع هو محور "مشروع النشر"؛ حيث وجه الوزير بتشكيل لجنة لمتابعة خطة تطوير قطاع النشر بالمؤسسات التابعة للوزارة.
الواضح أن الوزير الطموح لديه حماسة كبيرة نحو تحقيق أفضل النتائج في الخطة الاستثمارية للعام المقبل، لكن خشيتي تأتي من واقعنا الإداري الذي يحمل في طياته كل المحبطات بسبب العيوب القديمة المتغلغلة في أروقة العمل الإداري..
عقلية الموظف وعقلية المبدع
هناك انفصال بين المبدعين من منتجي الأعمال الفنية والثقافية والأدبية من ناحية، وبين إدارة هذه المنتجات التي يتولاها في الغالب موظفون تشربوا عاداتنا الإدارية بكل ما فيها من مثالب ونقائص، وعلى رأس تلك المثالب عادة الروتين التي تستطيع أن تعرقل أي عمل وتقتل الحماس في القلوب.
مثل هذا الروتين المعوِّق لسرعة الإنجاز، بعضه نابع من أمراض إدارية متوارثة؛ فالموظف يكتسب من خلال خبرته العملية بعض الصفات السيئة ويقلدها من سابقيه؛ مثلاً تجد في كل مكتب هناك موظف قديم، ليس من الضرورة أن يكون مدير المكتب، يستحوذ على أسرار العمل الإداري ويتحمل أعباءه طواعية، مثل هذا الموظف الذي يبدو مضحيًا بوقته وجهده، هو في الواقع موظف ماكر يجمع خيوطًا غير مرئية لتسيير العمل في يديه بحيث يصير غيابه عن العمل لمرض أو لظرف عائلي طارئ محدثًا لحالة تشبه الشلل التام! بينما تقوم الفكرة الأساسية لتعدد الموظفين على توزيع مهام العمل إلى أجزاء يسهل على العاملين أداءها معًا لتسريع العمل لا لإبطائه.
وفي قطاع النشر هناك عيوب يتضح فيها الفارق بين عقلية الموظف وعقلية المبدع قد تتسبب في أن أغلب المنتجات الإبداعية الثقافية، وإن كانت فوق المستوى، لكنها تنحدر في المبيعات إلى الحضيض، والسبب خطأ من موظف لا يدرك أهمية هذا العمل الإبداعي الذي بين يديه. هذا الخطأ ربما يأتي من المطبعة أو من الأعمال الفنية أو الخدمية التي قد تدمر شكل المنتج النهائي، بينما المضمون في أعلى درجات القوة والدقة والروعة!
الأعمال الفنية والخدمية التي تأتي بعد عمل المبدعين أولى بالاهتمام، فرب لوحة أو تحفة يقضي عليها أسلوب تغليفها أو تخزينها أو نقلها، بحيث يصيبها خدش يهبط بقيمتها إلى النصف، وربما كتاب رائع المضمون يقضي عليه غلاف قبيح سمج صممه فنان بعقلية موظف. هذا يحدث كثيرًا، والسبب أننا لا نهتم بالعمليات الخدمية للمنتجات الثقافية؛ ما يُسمّي بلغة السوق: "finishing".
مشكلات التسويق
سائر المؤسسات الثقافية لا بد أن لها إدارات خاصة بالتسويق. لكن ما مدى مسايرة هذه الإدارات لآخر مستجدات العمل التسويقي، وبخاصة التسويق الإليكتروني الذي يتضمن جديدًا كل يوم؟!
هناك فارق بين التسويق والإعلان، ومن الضروري للتسويق أن ينطلق من واقع خطة تسويقية مدروسة، وأن تكون له بنية تحتية من أدوات وتمويل وخبراء تسويق مدربين. أعلم أن الوزارة لديها ميزانية محدودة، ولا تستطيع تمويل حملات إعلانية كبيرة، لكن هناك من أساليب التسويق الحديثة ما ينسجم تمامًا مع ميزانية الوزارة ويحقق نتائج مبهرة..
إننا وبرغم إيماننا بالوسائل الحديثة للتسويق، ما زلنا نعتمد على وسائل الترويج القديمة وإعلانات الصحف، بينما باتت وسائل التسويق الإليكتروني بأنواعها هي الأكثر مرونة اقتصاديًا وعمليًا، وهي الأكثر تحقيقًا للنتائج المرجوة، كما أنها تتمتع بدقة عالية في الوصول للشرائح المستهدفة من الجمهور.
ما زلنا حتى اليوم نتعامل مع إدارات التسويق بعقلية الموظف، بينما هي في حاجة ماسة لعقلية احترافية إبداعية قادرة على منافسة القطاع الخاص، بل قادرة على منافسة الأسواق العربية والعالمية، وهو الذي سوف يصب مباشرة في مصلحة المبيعات، أي أن الإنفاق على التسويق سوف تتم ترجمته فورًا بارتفاع أرقام الأرباح الشهرية، والرائع في أساليب التسويق الإلكترونية أن النتائج يمكن قياسها بدقة بشكل دوري، والتعديل عليها وتحسينها باستمرار.
جزء أساسي في تطوير عمليات التسويق تأتي من تطوير المنتج الثقافي والإبداعي نفسه، بحيث يكون قادرًا على إزاحة كل المنافسين بقيمته الذاتية العالية، لهذا فإن تطوير إدارات التسويق سوف يضمن تطويرًا للإدارات الخدمية الأخرى بما فيها إدارة التوزيع.
على أهون سبب!
تطوير الصناعات الإبداعية والاهتمام بالاستثمار الثقافي، كما دعا وزير الثقافة، من الأمور التي تدعو للتفاؤل والاستبشار حقًا، لكننا قد نفسد الأمور العظيمة لأقل الأسباب، كالذي يفسد طبخة بسبب قرش ملح!
هناك لجان منعقدة لمتابعة تنفيذ الخطة الطموحة، لكنها لجان مكتبية تضع لوائح وتمهر الأوراق بتوقيعات وتصدر أوامر وقرارات وجزاءات، وكلها أمور ضرورية لتسيير العمل اليومي، لكنها أبدًا لا تحقق تطويرًا ولا طفرة في الأداء.
فالمطلوب هو المتابعة الدقيقة العملية لطريقة عمل الموظفين، وللمشكلات التي تطرأ فتعرقل سرعة الإنجاز، والمعاقبة الفورية لكل من يتعمد إبطاء سير العمل أو إفساده، فهو إما متكاسل أو مهمل أو مغرِض. والمكافأة الفورية أيضًا لكل موظف بارع ماهر سريع الإنجاز.
نعم لدينا بنية تحتية هائلة، وقدرات كامنة لا حد لها، ومبانٍ ومؤسسات ثقافية تغطي محافظات ومراكز وقري مصر، لكن ينقصنا استثمار وتفعيل كل هذه القدرات والإمكانات على أفضل نحو، ويقيني أننا قادرون على أن نجعل من الثقافة كوزارة مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل القومي.
إننا بلد الحضارة الفرعونية التي كانت أولى وأهم مظاهرها المظهر الثقافي بكل مفرداته من معمار وفنون وأدب ولغة وعلوم.
[email protected]