Close ad

طلعت حرب.. أبو الاقتصاد المصري ورائد التحرر الوطني

13-8-2024 | 21:15
طلعت حرب أبو الاقتصاد المصري ورائد التحرر الوطني طلعت باشا حرب

رائد اقتصادي من طراز نادر وفريد.. أخلص لقضايا وطنه وأفنى حياته في سبيل رفعته والارتفاع بمعيشة أفراده والنهوض باقتصاده وتنميته

موضوعات مقترحة

إنه المصلح الاقتصادي البارز محمد طلعت حرب باشا.. والذي بدأت باكورة أعماله الوطنية الجليلة في التصدي بحزم  لمشروع مد امتياز قناة السويس عام 1910م لمدة أربعين عاما إضافية بعد انتهائه لينتهي عام 2008م بدلا من 1968م المدة المقررة مقابل ضخ الشركة الفرنسية المالكة لحق الامتياز مبلغا من المال لصالح الحكومة المصرية على أربعة أقساطٍ علاوة على  نسبةٍ من الأرباح.

 ومن أجل لفت الأنظار لخطورة هذا المسعى الذي لاقى استجابة الحكومة المصرية وقتئذ برئاسة بطرس غالي ألف طلعت حرب كتابه "مصر وقناة السويس" لشرح عدالة القضية المصرية في القناة وحجم الخسائر التي لحقت مصر من جراء تنازلها عن حصتها في القناة.

جهود طلعت حرب ورعيل رجال الحركة الوطنية من أمثال الزعيم محمد فريد والذي فضح المشروع على الملأ عبر نشره في صحيفة "اللواء" لسان حال الحزب الوطني أسهم في حشد الرأي العام ضده  ومن ثم قيام الجمعية العمومية برفض المشروع والذي كان أحد أسباب اغتيال رئيس الوزراء بطرس غالي على يد الصيدلي الكيميائي "إبراهيم ناصف الورداني" في نفس العام 1910م.

بعد ذلك بعام وتحديدا عام 1911م قدم طلعت حرب عبر كتابه "علاج مصر الاقتصادي وإنشاء بنك للمصريين"، رؤيته الاقتصادية الشاملة القائمة على وجوب وجود بنك وطني يدعم الزراعة المصرية والمزارعين المصريين بدلا من تركهم لقمة سائغة للمرابين الذي يعتصرون ثمار تعبهم خاصة وسط غياب أي دور للبنك الأهلي والذي كان إنجليزي الملكية والإدارة ولا يراعي سوى المصالح الأجنبية بالأساس.

ظروف الحرب العالمية الأولى وما اتبعها من ركود اقتصادي حال دون تنفيذ فكرة طموحة مثل هذه، ولكن ذلك لم يفت في عضد مصلحنا الكبير، والذي استغل فرصة الحراك الشعبي الوطني الذي صاحب ثورة عام 1919م وخشية الإنجليز من الاصطدام بالمصريين مجددا فأعاد طرح فكرة بنك مصر مرة أخرى فلاقت ترحيبًا كبيرًا بين أوساط الوطنيين واكتتب منهم مائة وستة وعشرين ليبلغ رأس مال البنك وقت إنشائه عام 1920م ثمانين ألف جنيه مُحصلة عشرين ألف سهم، قيمة السهم أربعة جنيهات، وقد اشترى أحد أعيان مغاغة ويدعى "عبد العظيم المصري بك" ألف سهم وحده .

وتشكل مجلس الإدارة من: (أحمد مدحت يكن باشا رئيسًا لمجلس الإدارة- يوسف أصلان قطاوى وكيلا- محمد طلعت حرب بك نائب للرئيس وعضو مجلس الإدارة المنتدب- الدكتور فؤاد سلطان بك عضو مجلس الإدارة المنتدب بالإنابة).

أما الأعضاء فكانوا: (عبد العظيم المصري- اسكندر مسيحة- عبد الحميد السيوفي - علي ماهر- عباس بسيوني الخطيب- يوسف شيكوريل).

لم يقابل الجانب البريطاني هذه المحاولة المصرية لإنشاء بنك مصري بإدارة مصرية بأي هجوم أو اعتراض أو عراقيل تذكر لثقتهم في ضعف المصريين في الشق الاقتصادي والإداري من جانب، علاوة على  ضعف رأس مال البنك الناشئ الذي توقعوا له الإخفاق السريع من جانب آخر .

لكن هذا التصور الإنجليزي سرعان ما تداعى أمام عزيمة المصريين على إنجاح التجربة الواعدة، حيث أحدث البنك طفرة اقتصادية غير مسبوقة في كافة القطاعات وحقق نجاحات يُشار لها بالبنان.. فأنشأ شركة مصر للغزل والنسيج برأس مال ضخم ثلاثمائة ألف جنيه وشركات في مختلف القطاعات التنموية كصناعة الورق والطباعة والكتان والمصنوعات المصرية والحرير والجلود والدباغة والمستحضرات الطبية والتجميل والطيران والسياحة والتأمين ومصايد الأسماك والمناجم والمحاجر وغيرها.

وفي عام 1925م تبنى مشروعا رائدا كتب للسينما المصرية الحياة والريادة فأنشأ شركة مصر لصناعة السينما (استديو مصر) برأس مال خمسة عشر ألف جنيه.

كما كان له أياد بيضاء في تيسير الحج، وهي من أعظم  منجزات طلعت حرب العالقة بالأذهان حتى يومنا هذا.. إذ أنشأ شركة مصر للملاحة البحرية عام 1934م وكان من بواخرها الباخرتان (كوثر وزمزم) واللتان شاركتا في نقل الحجيج بين ميناء السويس وجدة

ويحكي "حسن حسن خرسا" خامسة ثانوي بمعهد الإسكندرية، في كتابه (رحلتي إلى الحجاز)  والصادر عام 1934م والذي جاء إهدائه موجها إلى حضرة الزعيم الاقتصادي (طلعت باشا حرب) “الذي خطا بالبلاد في هذه الأيام الأخيرة خطوة واسعة في سبيل تقدمها ورفع مستواها المادي بين الأمم المتمدنة” عن مدى متابعة طلعت حرب لهذا المشروع باهتمام بالغ ومعاينته ومشاهدته لنظام العمل على الباخرة “فيقر عينا ويهدأ بالا” ولكن سبحان من له الدوام فمصير زمزم وكوثر كان كمصير صاحبيهما سواء بسواء، فقد أدت الحرب العالمية الثانية إلى أزمة ببنك مصر وأجبر طلعت حرب على الاستقالة كما سنرى لاحقا، كما استخدمت الباخرتان في الأغراض العسكرية مما أدى لتدميرهما في غالب ظن الباحثين .

ولم تقف جهوده عند دعم المشروعات الاقتصادية وحسب بل وقدم الدعم لأرباب الثقافة فشد من أزر عملاق الأدب "عباس محمود العقاد" عند إصداره كتابه "سعد زغلول سيرة وتحية " وكان العقاد وقتها يعاني من التضييق عليه لدرجة أنه لم يجد ناشراً لكتابه وكان يمر بضائقة مالية شديدة لدرجة أن رهنت جارة له تدعى "أم بدرية" مصاغها وأقرضته مبلغ أربعمائة جنيه.

بعدها بعام كان "العقاد" قد أعلن عن طرح كتابه الجديد بنظام "الكوبونات" فأقبل الاقتصادي الكبير "محمد طلعت حرب باشا" على شراء خمسة آلاف نسخة من الكتاب، كما فتح للعقاد اعتمادًا بمبلغ خمسمائة جنيه، ومن هنا استطاع "العقاد" أن يرد الدين ويقابل المعروف بالشكر فاشترى للسيدة "سوارين من الذهب"، كما أقرض عميد الأدب العربي "طه حسين" بحسب ما  تكشفه ورقة عرفية عليها خاتم طه حسين لطلعت حرب مؤرخة في ١١ أغسطس ١٩٣٤م يقول فيها "تسلمت من حضرة صاحب السعادة طلعت حرب باشا مبلغ مائتي جنيه تفضل بإقراضه لي على أن أرده متى أديت ما علي لبنك مصر.. فأسجل هذا اعترافًا بالجميل وتقديرًا للفضل وشكرا للصنيعة والتزامًا بالوفاء.

الطريف في الورقة هو الشطب على "ووعدًا" وإبدالها بكلمة "والتزاما" وهو ما فسره البعض بكونه طلبا من طلعت حرب لضمان الإلزامية والجدية في السداد.. ختم طه حسين  "

أمام كل هذه الجهود وغيرها والتي رفعت من شأن مصر داخليًا وخارجيًا لا يسعنا إلا أن نطلق على صاحبها "رجل بأمة"، وقد كان التجسيد الحقيقي والمثال الجلي لهذه العبارة.

لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.. إذ بدأت شرارة الحرب العالمية الثانية تلوح في الأفق وبدأ المودعون يخشون على أموالهم بالبنك ويسحبونها بشكل سريع؛ مما أثر على السيولة به، ولما كانت مشروعات طلعت حرب في جُلها تنموية طويلة الأمد فهي بالتأكيد تحتاج لسنوات طويلة لتجني ثمارها وتحصد نتائج ثابتة الدعائم وطيدة الأركان لاقتصاد قومي قوي؛ لذا خشي "حسين سري باشا "وزير المالية في حكومة علي باشا ماهر الثانية (في الفترة من 18 أغسطس 1939م وحتى 27 يونيو 1940م) من عجز البنك عن الوفاء لمودعيه والتعرض لشبح الإفلاس في أتون حرب ضروس لا يعلم إلى أين تمضي؟!، وإلى متى تستمر ؟!، وإلى ماذا ستُفضي؟!.. 
لذلك لم يستطع أن يلبي رجاء طلعت حرب باشا بأن تكون الحكومة ضامنة للبنك أمام المودعين، وأن تتوقف عن سحب ودائع صندوق البريد، أو أن تساعده الحكومة في دفع البنك الأهلي لإقراض بنك مصر مقابل المحفظة.. وكلها مطالب جوبهت بالرفض من جانب حسين سري باشا الذي كان قليل الخبرة في الاقتصاد ومؤهله الأساسي في الهندسة، فاختار الطريق الآمن بالإجهاز على تجربة طلعت حرب الاقتصادية بالكامل، ودفعه للاستقالة من بنك مصر، وهو ما لاقى ترحيبًا من علي باشا ماهر المشهور بعدائه للوفد والنحاس وكان الأخير صديقًا لطلعت حرب باشا!!..كما لاقى أيضا سعادة من الجانب الإنجليزي الذي كان يثقله أن يرى مصر المحتلة تقف على قدميها عبر اقتصاد قوي وفعال.

رضخ طلعت حرب واستسلم لأمر الواقع واختار بقاء البنك قائلا مقولته الشهيرة: "ما دام في تركي حياة للبنك فلأذهب أنا وليعيش البنك" واختار العزلة والانسحاب من الحياة العامة والشأن السياسي، وعاش ما تبقى من عمره بقرية العنانية، في مركز فارسكور بدمياط حتى توفي عام 1941م.

د. محمد فتحي عبد العال 
كاتب وباحث وروائي مصري

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة