تروي الأساطير الإغريقية أن الشاب "إيكاروس" حاول الخروج من المتاهة الضخمة فحلّق قريبًا من الشمس بجناحين أحدهما من الريش والآخر من الشمع. بفعل حرارة الشمس القوية ذاب الشمع فهوى الشاب في البحر ومات غرقًا. إيكاروس وأبوه المهندس المعماري ديدالوس الأَثِينِي كانا سجينين داخل متاهة هائلة لا يخرج منها إنسان أو حيوان، شيّدها الأب نفسه بأمر من ملك كريت مينوس.
هذه الأسطورة القديمة تذكرني بما مرت به الأسواق المالية العالمية من عاصفة عاتية بداية الشهر الجاري تبخرت خلالها تريليونات الدولارات نتيجة "مخاوف" مستثمرين من انزلاق الاقتصاد الأمريكي، الأكبر في العالم، إلى ركود. فماذا حدث؟ ولماذا؟
تقرير الوظائف
أظهر تقرير الوظائف الأمريكية تباطؤ التوظيف في الولايات المتحدة أكثر من المتوقع في شهر يوليو، وارتفاع معدل البطالة إلى 4.3% من 4.1% في يونيو؛ وهو أعلى مستوى خلال ثلاث سنوات تقريبًا.
وفق قاعدة "Sahm Rule" التي صاغتها الخبيرة الاقتصادية السابقة في بنك الاحتياطي الفيدرالي كلوديا ساهم، فإن الاقتصاد يصبح في ركود فعلي إذا ارتفع متوسط معدل البطالة في ثلاثة أشهر بنصف نقطة مئوية على الأقل فوق أدنى مستوى له خلال الاثني عشر شهرًا السابقة.
عقب نشر التقرير انهارت البورصات العالمية وفقدت الشركات المدرجة حول العالم، أكثر من 6.5 تريليون دولار من قيمتها السوقية يوم 3 يوليو.
وأعادت التراجعات المفاجئة، والتي طالت الأصول المتداولة من الأسهم إلى النفط والعملات المشفرة، إلى الأذهان شبح "الإثنين الأسود"، والذي نزلت فيه أسواق المال بنحو 40% منذ 37 عامًا.
وقفز مؤشر Vix للتقلبات المتوقعة في سوق الأسهم الأمريكية، المعروف باسم "مؤشر الخوف" في وول ستريت، ليصل إلى 29 نقطة، وهو أعلى مستوى منذ أزمة البنوك الإقليمية الأمريكية في مارس 2023.
ومؤشر الخوف هو أداة تستخدم لقياس معنويات المستثمرين في الأسواق المالية، عندما يكون المؤشر في منطقة "الخوف الشديد"، فإن ذلك يعكس حالة من القلق والتوتر بين المستثمرين، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى بيع واسع النطاق للأسهم وانخفاض قيمتها.
ورغم أن الأسواق عوضت خسائرها في الجلسات التالية، فإن هذه العاصفة العاتية كشفت ردة الفعل المبالغ فيها من قبل بعض المستثمرين، وأن "المشاعر" هي من تحرك الأسواق.
حركة تصحيح
كي نضع الأمور في سياقها الصحيح، فإن بيانات التوظيف ليس بها ما من شأنه أن يقترب من تأكيد الركود أو الأزمة الاقتصادية.
فالناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نما بوتيرة سنوية بلغت 2.8% خلال الربع الثاني من هذا العام. أيضًا تقرير مشاورات المادة الرابعة للولايات المتحدة لعام 2024 الصادر حديثًا عن صندوق النقد الدولي يؤكد أن "الاقتصاد الأمريكي هو الاقتصاد الوحيد في مجموعة العشرين الذي يتجاوز مستوى الناتج المحلي الإجمالي فيه الآن النمو الذي كان سائدًا قبل جائحة كوفيد. وهذا أمر جيد للولايات المتحدة وللاقتصاد العالمي".
لذا فإنه من الواضح أن هذه العاصفة التي مرت بها سوق الأسهم هي في الأساس تعديل لمراكز استثمارية في السوق، وليس نتيجة صدمة اقتصادية، حيث أفرطت مجموعة كبيرة من المستثمرين في ثقتها، وتحملت مخاطر أكبر مما ينبغي في عمليات التداول ذات الرفع المالي المفرط، والتي امتدت من القروض قليلة التكلفة بالعملة اليابانية بسعر فائدة منخفضة، إلى السعي وراء الفقاعة التي تشهدها أسهم شركات التكنولوجيا، بالأخص أسهم الذكاء الاصطناعي. وأفضى إفراط المستثمرين في المخاطرة إلى هذا الإخفاق، وهي مقاربة مشابهة لقصة "إيكاروس".
مشاعر الخوف والقلق
قرارات بعض المستثمرين في أسواق الأسهم -التي تعكسها حالات البيع العشوائي- تحركها مشاعر الخوف والقلق وتتأثر بشكل كبير بالعواطف والتوقعات النفسية، بدلًا من البيانات الاقتصادية الدقيقة، ما يفضي إلى هزات الأسواق.
التفاؤل المفرط أو التشاؤم المبالغ فيه يمكن أن يؤدي إلى قرارات غير مبررة تؤثر على أسعار الأسهم، ويعكس عوامل نفسية أكثر من كونه استجابة للأداء الحقيقي للشركات أو الاقتصاد.
تصرف بعض المستثمرين وفقًا لمشاعرهم، قد يؤدي إلى قفزات حادة في أسعار الأسهم خلال فترات التفاؤل أو انخفاضات شديدة خلال فترات الخوف والقلق، وهذه الاضطرابات يمكن أن تخلق بيئة استثمارية غير مستقرة، لتتغير الأسعار صعودًا وهبوطًا بصورة متسارعة وغير متوقعة بناءً على عوامل نفسية بدلًا من الأسس الاقتصادية المتعارف عليها.
بيئة مضطربة
في ظل أسواق مالية تحركها مشاعر الخوف والقلق يصبح من الصعب التمييز بين القرارات الصائبة، وتلك المتأثرة بالعواطف، فالبورصات التي تتأثر بشكل كبير بالعواطف، مثل الخوف أو الجشع، يمكن أن تشهد تقلبات حادة وسريعة غير متوقعة، مما يسهل وقوع المستثمرين في فخ القرارات الاندفاعية والعاطفية.
إن الخروج من البورصات في يوم واحد يخلق الفوضى، وربما يسبب اضطرابًا عالميًا إذا وقع ملايين المستثمرين فريسة للذعر في نفس الوقت.
خلاصة القول، إن تقرير واحد سلبي عن الوظائف لا يشكل اتجاهًا، فقد كانت أرقام الوظائف جيدة حتى شهر يونيو، ورغم ارتفاع معدل البطالة بنحو 0.2% في يوليو، نجح الاقتصاد في إضافة 114 ألف وظيفة جديدة، وبنك الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) يستهدف التضخم والنمو، وليس تقلبات أسعار الأسهم، ولا يتفاعل مع البورصات إلا عندما يهدد التقلب الاستقرار المالي، وفي الوقت الراهن، لا يوجد دليل على ذلك.
الخوف من صنيعة المستثمر نفسه، وعليه أن يتذكر أن البورصة ليست الاقتصاد، كما أن العديد من المستهلكين لا يظهرون علامات الخوف، فالإنفاق لا يزال جيداً، والسفر لا يزال جيدًا، ولا يوجد شيء يشير إلى أن السوق تتجه إلى ركود.
لذلك فإنه في مثل هذه البيئة المضطربة، ينبغي على المستثمرين اتباع إستراتيجيات واضحة، تضمن تحقيق أهدافهم المالية وتجنبهم الخسائر الكبيرة.