استرعى انتباهي مؤخرًا فكرة الترويج للحقبة الملكية في مصر، ومحاولة استدعائها بذكرياتها وأحداثها، بطرح رواياتها وسرد قصصها من خلال عرضها على العديد من مواقع التواصل الاجتماعي، مصحوبة بنوع من الإطراء والمبالغة في عظمتها من خلال عقد مقارنات بين عصرها وعصرنا الحالي!!
والحق أقول: إنني أشعر أحيانًا، كما يشعر غيري، بالميل نحو العودة إلى هذه الحقبة لأسباب عدة، منها: الرغبة القوية في العثور على قدر كبير من الهدوء والسكينة؛ من خلال الحلم بالتجوال في شوارع تكاد أن تخلو من السيارات، بل وأحيانًا من البشر.
المزعج والمخيف أن مجتمعنا ما زال كعادته يحكم على أغلب القضايا والأمور بنظرة عاطفية بحتة، لا يكترث ولا يأبه بتلك الحفر التي يغفل عنها وهى تتأهب استعدادًا لمقدمه، تنتظر تعثره وسقوطه، تتحكم فيه بمفهوم عصري جديد اسمه "نوستالجيا"؛ وهذا مصطلح معناه "معاناة الحنين إلى الماضي".
تنجح تلك الدعوات في إرباك البعض بخداعها وتمويهها لكل ما يراه أمامه أو يسعى للتعايش معه، وهنا ينبغي علينا أن نقول: لا حنين لماضٍ آثر مصالح فئة على فئة، بدون حق وبدون تبرير مقنع للأمر.
القصة الحقيقية التي تترجم حلم عودة الإنسان لماضيه تنتج عند فقده لشيء لم يستطع مجابهته في حاضره، رغبة في الإتيان بمثله أو السيطرة عليه؛ فقضية الزيادة السكانية على سبيل المثال؛ جعلت أغلبنا يبحث عن آلة زمن يستقلها كي يستمتع بتوازن نفسي ناتج عن تقارب نسبي بين مساحة أرض وتعداد بشر، فصورة الشوارع الجميلة الممتلئة بالأشجار تستدعي أرواحنا لحلم السكن بها أو المرور بها، كنوع من التعويض للشعور بالرضا.
أسرتنا في الماضي سلوكيات حميدة ميزت كل مصري أصيل عرف ربه وطبق شريعته بقناعة خالصة وبمحبة بالغة مبتعدًا عن الفتن، امتلك أخلاقًا عالية جملته وأعلت من شأنه؛ فهو المهذب المحترم؛ هو الذي احترم الكبير وعطف على الصغير، هو الذي بذل أقصى ما بوسعه حتى انتقى من المعاني أرقها، ومن الكلمات أجملها، خوفًا من إساءة أو جرح لأحد، إنسان قدر الجميع؛ بداية من أبوين ثم معلمين، مرورًا بجيران له، أو أشخاص محيطين به، سواء أكان هذا داخل حجرات دراسة أو بين أروقة وميادين عمل، نهاية بانتماء غير مشروط لبلد عظيم ومن بعده وطن.
كلما ازدادت رغبتنا في استدعاء ماضٍ سعيد، ازدادت معها محاولات المضللين الذين يدعون لطمس حقيقة غائبة أن لكل عصر ظروفه المختلفة والمتنوعة، منها ما احتوى على بساطة عيش، ومنها ما زاد ثراؤه عن كل حد، فهؤلاء يصورون الأمر وكأن الماضي كله كان نعيمًا مقيمًا، كأنه خلا تمامًا من ظلم ومن قهر، من سلب لحقوق أغلبية ساحقة من عمال وفلاحين وأصحاب مهن.
أدركت أن بث هذه الرسائل المغرضة هدفه هو دس السم في العسل، الدعوة المستترة لرفض واقع اقتصادي صعب نحياه ونعيشه كما يعيشه غيرنا، وعلينا أن ننتبه إلى ما يحاك لنا ومن أجلنا، علينا أن نحافظ على هويتنا بتعزيز الوعي الجمعي وإخبار الجميع بالقصة الكاملة.
علينا أن نحارب أهواء هؤلاء بفطنتنا ووعينا، بالتبصير المستمر بما تبثه هذه الرسائل من مضامين خفية تمر من بين السطور بسلاسة فائقة، لتستقر بعدها في قلوب مبتلاة ببطء في الإدراك ومغالاة في العاطفة.