الاعتياد، التعود، التأقلم، المسايرة، المعايشة؛ كلها كلمات متشابهات في المعنى إلى حد ما؛ كلها تسعى لإيقاظك، تتوجه نحوك كي تطرق بابك بعدما نفدت كل محاولاتها السابقة في التخطي والكتمان، ربما تكون قد سئمت منك ومن استمراريتك في هذا الوضع المزعج الذي ارتضيته لنفسك، يبدو أنها قررت إطلاق سراح صمتك بالقوة والإجبار، لكي تستبدله هى بحديثها وحوارها الصادق عن تجربتك التي مررت بها ثم خبأتها داخل الأعماق.
كأنها أعلنت تمردها عليك للمرة الأولى، ثارت على هؤلاء الذين أثقلوك بالأحمال؛ على من أمطروك بالتجاهل والإهمال، فالتأقلم كان آفتك التي أسكنتك تلك المساحة الضيقة، قيدتك في هذا المكان وكبلتك بالأغلال، إن التأقلم مع الأوضاع يعد بطولة في بعض الأحيان، كأن يتأقلم الإنسان مع طبيعة عمل لا يناسبه، أو أن يحيا في ظل بيئة اجتماعية لا تمثله، أو حتى عند اقترانه بشخص لا يشبهه، فهذا دون شك يعد نوعًا من أنواع البطولة والجهاد.
قد يكون هذا مألوفًا بالنسبة لك برغم مساوئه، إلا أن هذا النوع الآخر الذي جعلك تعتاد على تحمل ألم المرض دون إدراك منك أنك متعب بالفعل، وبأنك تستحق فترة طويلة تقضيها بين راحة وعلاج، حين تكتشف بالصدفة أنك مريض تعاني دون أن تنتبه لألمك الذي عايشته وتأقلمت معه، وكأنك تعيش في عالم آخر موازٍ لعالمك، لتجد نفسك تستيقظ على مفاجأة كبرى تلزمك براحة تامة في الفراش.
المدهش والمؤلم في نفس الوقت أنك لا تستطيع الإجابة عن سؤال طبيب يسألك عن حجم ألمك الذي تجاهلته لدرجة جعلتك تعتاده وتتخطاه، فأنت لا تذكره ولا تدركه، من الأساس، يرجع هذا إلى تقصيرك التام في حق نفسك. إن التضحية من أجل إسعاد الآخرين وتلبية رغباتهم من السلوكيات الحسنة والحميدة فليس على هذا الكلام غبار لن أختلف معك في اتباعك لتلك العادات، لكن من الضروري والمهم أن يكون هذا -بحساب- فالعطاء والمنح الدائمان يحجبان عنك صورتك الحقيقية التي تود أن تصرخ فيك مطالبة إياك بضرورة الانتباه، بعد أن تلاشت صورتك من عيني هؤلاء الذين انشغلوا عنك، حين وضعوك حرفًا أخيرًا في كلمة أخيرة، في آخر سطر وصفحة من كتاب.
يقع اللوم علينا غالبًا حين نجزل في العطاء ونمنح من غير حساب، تزيد الأمور سوءًا بعد ذلك بسبب تعرضنا لحالات من ضعف وإجهاد، خاصة حينما يتقدم بنا العمر، عندما تثقل علينا آلامنا وتزداد، ننزوي بعيدًا نشكو لشكوانا منا، نبحث وننقب عن اهتمام من أهل ومن أحباب.
أعلم أننا لسنا أطفالًا كي نترك أنفسنا رهينة للتعلق الدائم والتام، فالحياة بوتيرتها السريعة ستوقف هذا الحلم، مرة بسبب البعد، ومرة أخرى بسبب التعاقب السريع للأيام والشهور والأعوام.
ليس عيبًا أن نخفف عن أنفسنا بعضًا مما تحمله من عناء، ليس خطًأ أن نقتصد لها جزءًا من هذه الاهتمامات، ينبغي علينا من حين إلى آخر أن نوقف هذا، نحتج عليه، نطلق بأيدينا سراح صمتنا الكامن بالأعماق.