شهادة أمريكية عن أحمد عرابي

7-8-2024 | 12:44

لم يكن الظهور الأول للزعيم أحمد عرابي في وقفته الشهيرة أمام قصر عابدين؛ لمطالبة الخديوي الشاب توفيق بتحسين أوضاع الجيش والشعب.

فقد ظهر عرابي قبل ذلك وقت إعلانه عن ضرورة المساواة داخل الجيش بين المصريين والشراكسة (مصريون ينحدرون من شمال غرب القوقاز)، في عهد إسماعيل، لدرجة أنه حوكم عسكريًا، وفُصل من الخدمة. ولما عاد إليها، بوساطة من أقارب زوجته، وجد المزيد من التمييز، وكان له موقف ساخط على دورهم في فشل الحملة المصرية على الحبشة.  

كان عرابي في الواجهة من مسرح الأحداث بعد عزل إسماعيل، وقاد ثورته، التي شكك فيها البعض، وذهب آخرون إلى أن وقفة عرابي أمام الخديو، من خيال الجمهور المتحمس، أو من إيحاءات عرابي نفسه. وهذا لا يهم كثيرًا، إلا في إطار الكيد الوطني، لكن الأكثر أهمية هو نفي البعض فعل "الثورة" عن حركة عرابي وصحبه، وتسميتها "هوجة". أما الأكثر خطورة فهو تحميل عرابي مسئولية جلب الاحتلال الإنجليزي لمصر الذي دام سبعين عامًا.
 
ولقد استوقفني فصل في كتاب "مصر وكيف غدُر بها" (المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر سنة 1964)، تأليف البرت فارمان القنصل العام الأمريكي في مصر، حول حقيقة ما حدث. وعمل فارمان بعد انتهاء خدمته كقنصل في صيف 1881 رئيسًا للمحكمة المختلطة في الإسكندرية، وهناك شاهد ضرب الإسكندرية بالقنابل واطلع على الأسرار من أصدقائه الإنجليز ومن قائد السفينة الحربية الأمريكية آلان. 

يقول فارمان: "وبعد إجراء تعديلات مختلفة بالوزارة المصرية، أصبح عرابي باشا القوة الحاكمة، لكنه لم يصدر منه أي خطأ حقيقي في سياسته سوى أنه قلل من هيبة القوات الأجنبية". و"كان عرابي معبود الشعب، وقلما كان يوجد وطني محبوب لدى الجمهور المصري كعرابي باشا"، و"كان ظهوره بالإسكندرية مناسبة لاحتفاء شعبي لم يسبق له مثيل" الأمر الذي جعله "موضع سخط". وفيما بعد "أثبتت الحقائق أن ما من وطني كان بعيدًا عن الدوافع الشخصية مثل عرابي". و"لم يكن لديه أي دافع سوى الرغبة الجامحة في التحرر من سيطرة أجنبية غاشمة".
 
ويحكي فارمان عن قيام إنجلترا وفرنسا بإرسال أساطيلهما إلى شواطئ الإسكندرية بدعوى حفظ الأمن في البلاد، وحذت حذوها أساطيل دول أخرى للمراقبة، ومن بينها قطع من الأسطول اليوناني، وزاد التوتر في المدينة بسبب مظاهرة الأساطيل. وباتت المسألة بحاجة فقط إلى شرارة انطلاق، والتي كانت في حادث عادي حيث قام أحد الرعايا الإنجليز من الملطيين اليونانيين بطعن عربي، فتجمع الأهالي غاضبين، وبدأ اليونانيون والمالطيون في إطلاق النار، حيث كان القنصلان الانجليزي واليوناني بالإسكندرية يمدونهم بالسلاح سرًا، من نوافذ منازلهم على الأهالي العزل، الذين تدفقوا بالهراوات فقط.

وبدأ الشغب، ونُهبت المحال التجارية في الحي العربي، وعجز البوليس عن قمع الاضطرابات. وبمجرد نزول الجنود المصريين من القلاع "اختفى الغوغاء بسرعة سحرية". 

ونجم عن الشغب وفاة ستين من الرعايا الأوربيين وأعداد كبيرة من العرب، ولمدة ثلاثة أيام كانت التقارير الأوروبية تُطلق على ما جرى وصف "الهياج المؤسف" و"المظاهرة الخطيرة". بعد ذلك أطلقت الصحافة الإنجليزية على ما حدث اسم "مذبحة المسلمين للمسيحيين في الإسكندرية" والتي "أوعز بها عرابي باشا" في تغطية مبكرة لما ينويه الإنجليز من احتلال الإسكندرية ومصر كلها لحماية المسيحيين الأجانب.  

أما فارمان فقد أتيح له أن يسأل المراسل الصحفي الذي حوَل الحدث من "شغب" إلى "مذبحة" ومضى الجميع خلفه، "فأجاب في برود إنه في مصر لغرض ما، وهو بهذا يؤدي مهمته". بينما كانت "هناك محاولة للحصول على دليل بأن عرابي باشا كان مسئولا عن حدوث هذا الشغب" أو "تدبير خطط سابقة لحدوثه" من دون نتيجة.
  
ويخلص فارمان إلى أن أحداث الشغب بالإسكندرية كانت أسى كبيرًا بالنسبة لعرابي وأصدقائه، فمصلحتهم أن يستتب الأمن، بينما هؤلاء الذين يرغبون في الاحتلال العسكري الأجنبي يرحبون بقيام الشغب. ويشير فارمان إلى أنه "تحت ستار الادعاء بأن عرابي كان يقيم مدافع إضافية في القلاع مدعمًا مركزه، ومعرضًا الأسطول البريطاني الراسي في الميناء للخطر"، و"هو أمر نفاه كل من الخديوي وعرابي". وطلب الإنجليز من عرابي باشا "تسليم القلاع، لكنه لم يفعل، فاتُخذت الترتيبات العاجلة لقذف المدينة بالقنابل". 

وفي العاشر من يوليو 1882، وقفت كل الأساطيل في البحر لتشاهد ضرب الأسطول الإنجليزي للإسكندرية بالقنابل، باستثناء الأسطول الفرنسي الذي انسحب إلى بورسعيد. وتوقع الإنجليز إسكات المدافع المصرية خلال نصف ساعة أو ساعة على أقصى تقدير، ولكن خابت التقديرات فقد ظل الجنود المصريون رغم بدائية تسليحهم شجعانًا وتشبثوا بمراكزهم ولم تصمت مدافعهم إلا في الساعة الخامسة بعد الظهر.

 و"كان يوجد في القلاع 1500 مقاتل مات أغلبهم في مراكزهم، وشاهدنا في اليوم التالي دخانًا كثيفًا يتصاعد من المدينة وألسنة النيران تمتد فوق الحي الأوروبي"، وكان حرق وتدمير المدينة بالقنابل الإنجليزية "إحدى النكبات الكبرى في القرن التاسع عشر". وكررت لندن ادعاءاتها بأن السبب أنهم اكتشفوا أن المصريين كانوا يدعمون مراكزهم في القلاع، وأنهم نصبوا مدفعًا أو مدفعين زيادة عما كان فيها. بعد أيام تمكن الانجليز من دخول الإسكندرية واحتلالها تمهيدًا لاحتلال كامل التراب المصري.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة