هناك أيام خالدة في تاريخ الأمم تحفر نفسها بقوة وتقف صامدة أمام عوامل النسيان، تتباهي بها الشعوب إذا ما تفاخرت بأمجادها، ومصر حينما تتحدث عن نفسها لا يجد العالم نفسه إلا مشاهدًا ومستمعًا؛ لأنه يعلم أن فصلاً جديدًا من فصول التاريخ يكتب بسواعد أبناء أم الدنيا.
موضوعات مقترحة
هكذا كانت مصر حينما نقش الأجداد على وجوه الحجر أسس الحضارة والمدنية منذ فجر التاريخ، وهكذا يمضي الأحفاد على ذات الطريق، فيأخذون من ماضيهم ما يقيمون به حاضرهم، ويجعلون من الحاضر أساسًا لبناء مستقبلهم.
ولهذا يظل يوم السادس من أغسطس عام 2015م، يومًا من أعظم أيام مصر، حينما شمّر المصريون عن سواعدهم لحفر قناة السويس الجديدة، مضوا على طريق أجدادهم الذين حفروا القناة بأيديهم قبل معاولهم، وجرى في مجراها عرقهم ودماؤهم قبل أن تلتقي فيها مياه البحرين المتوسط والأحمر، لقد كان الفارق والملابسات عديدة بين حفر القناة أول مرة وحفر القناة الجديدة، فقد كان كرباج السخرة للمستعمر حاضرًا في المرة الأولى فمات الآلاف تحت وطأة القوة الغاشمة للاحتلال، أما المرة الثانية فالوضع مختلف، فالمصريون قرروا أن يرسموا مستقبلهم ويعبرون به نحو الجمهورية الجديدة التي أُرسي أساسها بعد أن خرج الشعب في ثورتي 25 يناير و30 يونيو مُحاطًا بدعم قواته المسلحة الباسلة.
قناة السويس الجديدة
قناة السويس الجديدة هو مشروع لتطوير وتوسعة قناة السويس، يشتمل على تفريعة جديدة (من علامة كم 61 إلى علامة كم 95 ترقيم قناة) بطول 35 كم، بالإضافة إلى توسيع وتعميق تفريعات البحيرات المُرة والبلاح بطول 37 كم ليصبح الطول الإجمالي للمشروع كممر ملاحي مزدوج 72 كم (من علامة كم 50 إلى علامة كم 122 ترقيم قناة).
كان الهدف واضحًا من حفر قناة السويس الجديدة، وهو تلافي المشكلات القديمة التي كانت تعاني منها السفن العابرة للمجرى الملاحي للقناة، حيث كانت تتوقف قافلة الشمال لمدة تزيد على 11 ساعة في منطقة البحيرات المُرة، كما يسمح المشروع بمرور السفن العملاقة بأمان تام، بعد تعميق الغاطس ليصل إلى 65 قدم، وهذا بلا شك يسهم في زيادة دخل القناة مستقبلاً بنسبة تصل إلى 259%.
تاريخ مشروع قناة السويس الجديدة
على مدى أكثر من 40 عامًا، ناقشت حكومات سابقة عدة مشاريع لحفر قناة السويس الجديدة، ضمن تنمية محور قناة السويس، لكن القرار كان بحاجة إلى إرادة قوية وطامحة من القيادة السياسية، ومع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم، جعل من هذه الفكرة واقعًا قابلاً للتنفيذ، وأن الأحلام الكبيرة ممكنة التنفيذ في ظل الجمهورية الجديدة؛ لذا فقد أعلن في 5 أغسطس 2014م، عن البدء في إنشاء مجرى ملاحي جديد لقناة السويس وتعميقه، وتنمية محور قناة السويس الكامل، وذلك لتعظيم محور قناة السويس كمركز لوجستي وصناعي عالمي متكامل من كافة النواحي الاقتصادية والعمرانية والبيئية، ويخدم عدة قطاعات مثل: "النقل، اللوجستيات، الطاقة، الاتصالات، تكنولوجيا المعلومات، العقارات، الزراعة"، وذلك في محافظات القناة (السويس، بور سعيد، الإسماعيلية).
تمويل مشروع حفر قناة السويس الجديدة
ولأن هذا المشروع هو مشروع المصريين وحدهم، فلم يمضِ أكثر من 10 أيام على قرار الرئيس السيسي بحفر قناة السويس الجديدة، حتى أعلنت الحكومة في 15 أغسطس عام 2014م، عن طرح شهادات استثمار باسم "شهادة استثمار قناة لسويس الجديدة"، كان الهدف هو جمع 60 مليار جنيه لتمويل المشروع تمويلاً مصريًا خالصًا، وقد كان المصريون على قدر الحدث، وموضع رهان القيادة السياسية لبناء مستقبل أفضل، وطُرحت الشهادات في البنوك القومية بفائدة سنوية 12% تصرف كل 3 أشهر، على أن يُسترد أصل المبلغ بعد مرور 5 سنوات.
لم يمضِ شهر، حتى أعلن محافظ البنك المركزي في 15 سبتمبر 2014م، أن حصيلة بيع شهادات استثمار قناة السويس وصلت 61 مليار جنيه، وهو المبلغ المطلوب لحفر القناة الجديدة، وأنه تقرر إغلاق الاكتتاب في الشهادات بالبنوك.
حفر القناة
ومثلما كان التمويل مصريًا خالصًا، قد أبى المصريون إلا أن يكون الحفر مصريًا أيضًا بسواعد أولادها وبشركات مصرية وطنية دون الحاجة لشركات أجنبية، ففي 19 أغسطس عام 2014م، أعلن الفريق مُهاب مميش، رئيس هيئة قناة السويس آنذاك، عن التحالف الفائز بتنفيذ بمشروع حفر قناة السويس الجديدة، وهو تحالف "دار الهندسة" التي تضم 17 شركة وطنية تحت إشراف وتنفيذ الهيئة الهندسية للقوات المسلحة.
كان تحديد الهدف واضحًا منذ اللحظة الأولى، وهو إنجاز حفر القناة خلال عام كما أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي، وبالفعل بدأ الحفر على مرحلتين، الأولى "مرحلة الحفر الجاف"، والتي بدأت يوم 7 أغسطس عام 2014م، شارك فيها 44 ألف مصري، بمساعدة 4500 مُعدة حفر، وعلى مدى 9 أشهر تم تنفيذ المهمة بنجاح، تم خلالها إزاحة 250 مليون متر مكعب من الرمال، ثم بدأت مرحلة أخرى تتمثل في تكسية جوانب وضفاف المجرى الملاحي للقناة.
تمثلت المرحلة الثانية في الحفر المائي أو "التكريك" للوصول للعمق المطلوب الذي أعلن عنه من قبل، وهو 65 قدمًا، لتعميق الغاطس للسفن العملاقة، شارك في هذه المرحلة من الحفر 2000 عامل من هيئة قناة السويس، و3000 عامل من عمال التحدي، و750 عاملاً من تحالف الأمل، بمشاركة 45 كراكة واستخدام 4 فنادق عائمة لاستراحة العمال خلال ورديات التكريك، وانتهت مرحلة التكريك أو "الحفر المائي" بإزاحة ورفع أكثر من 258 مليون متر مكعب من الرمال المشبعة بالمياه.
لم تكن ملحمة قناة السويس الجديدة، ملحمة حفر فقط بقدر ما كانت ملحمة تنمية، لقد كان الغرض من الحفر في المقام الأول هو تنمية محور قناة السويس؛ لذا تم تركيب 120 شمندورة على طول المجرى الملاحي للقناة، مزود بألواح الطاقة الشمسية للإضاءة عبر الحاسب الآلي للتواصل بين مراكز الإرشاد البحري القناة والسفن، فضلاً عن إنشاء 10 مراكز إرشاد جديدة.
فى الوقت نفسه، تم تنفيذ 4 أنفاق أسفل قناة لسويس، نفقان ببورسعيد، وآخران بالإسماعيلية، وقد اعتبرت هذه الأنفاق بمثابة شرايين الحياة لتنمية أرض سيناء الحبيبة، وأقيمت ضاحية الأمل التي تمثل مجتمعًا عمرانيًا متكاملاً على مساحة 2744 فدانًا بين مدن القناة الثلاثة.
وفي الوقت الذي انطلق فيه قطار التنمية في محور قناة السويس، تم تطوير كافة الموانئ على هذا المحور، وهي موانئ: "شرق بورسعيد، غرب بورسعيد، السخنة، السويس، الأدبية".
حفل افتتاح قناة السويس
شهد حفل افتتاح قناة السويس الجديدة يوم 6 أغسطس 2015م، مشاركة دولية عالية المستوى، حيث شارك في الحفل زعماء وملوك العالم والوفود العربية والأوروبية والإفريقية والآسيوية، والذين حضروا لحفل الافتتاح بدعوة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، لمشاهدة الإنجاز المصري وقدرة المصريين على تحقيق الحلم بافتتاح القناة الجديدة في وقت قياسي، بالإضافة إلى حضور لفيف من وزراء الحكومة المصرية والشخصيات العامة والعلماء والإعلاميين.