رغم هول المأساة، وحرب الإبادة المجنونة ضد الشعب الفلسطيني من قوات الاحتلال الإسرائيلية، إلا أن الفلسطينيين لا يستسلمون، العالم كله في ذهول من صمود أهالي غزة، ويتساءلون لم لا يهربون أو يرحلون، لم لا يتوقفون عن المقاومة والقتال ليس في غزة، بل في كل أنحاء فلسطين المحتلة.
وأحسب أن ثمة ملاحظة تسترعي الانتباه، وهي كيف سئم الأوكرانيون من الحرب، وفروا من بلادهم إلى بلدان أوروبية هربًا من التجنيد والقتال. وفي المقابل بقي الفلسطينيون ولم يفروا، رغم أن الاحتلال يطاردهم ويدفعهم دفعًا للفرار في موجات نزوح ضخمة لدول الجوار، إلا أن هذا التطهير وتفريغ الأرض من سكانها في غزة لم يحدث.
ترى ما السر؟ وأحسب أن الأمر ببساطة هو أن "إرادة الشعب الفلسطيني" لم تنكسر لا "إرادة قادته أو قوات المقاومة"، لأن الشعب هو من يقول "سنحارب.. سنحارب"، وإذا ما قرر شعب أن يحارب، فإنه يثبت لعدوه أن في الصراع الطويل والمرير معه فإن "الموت" هو المعركة الوحيدة التي لن ينتصر فيها، ومهما قدم من شهداء وقادة ورجال ونساء وأطفال، فإن العدو أبدًا لن ينتصر، وذلك ما علمنا إياه التاريخ "إذا كان هناك ظلم واحتلال فلابد وأن تكون هناك مقاومة"، ولابد للقدر أن يستجيب ولابد لصاحب الأرض أن ينتصر.
وهذا ما تؤكده صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية في تقرير أخير لها من أنّ "إسرائيل لم تنجح في ردع أعدائها"، وتتحدث عن "سيناريو كابوسي" بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بعد سلسلة من الاغتيالات لقادة فلسطينيين وقادة من حزب الله اللبناني، كانت قد حذّرت منه القوى الإقليمية طيلة فترة الحرب.
وأشارت الصحيفة إلى أنّ "إسرائيل ظلّت تتبادل الضربات مع حزب الله بشراسة متزايدة منذ أشهر"، في حين "يصعب الآن تصور كيف لا يؤدي استهداف الضاحية الجنوبية لبيروت إلى إثارة رد فعل أكثر قوة، الأمر الذي يدفع الخصوم إلى مزيد من الانحدار في دورة التصعيد الخطيرة".
كما أنّ الولايات المتحدة، التي تعهدت بالتزامها "الصارم بالدفاع عن إسرائيل"، قد "تكون في خطر الانجرار إلى صراع أعمق، إذ من المرجح أن تكون قواتها في العراق وسوريا أهدافًا"، وفق "فايننشال تايمز".
وقد تواجه الشحنات الدولية التي تتعرض بالفعل للهجوم من اليمن في البحر الأحمر، "تهديدات أكبر أيضًا"، فيما "تشعر الدول العربية بالقلق إزاء الآثار الجانبية المحتملة".
وبحسب العديد من الخبراء، فإنّ هذا هو السيناريو الكابوسي الذي حذرت منه القوى الإقليمية طيلة فترة الحرب الإسرائيلية على غزة.
وتشير مصادر مطلعة إلى تعثر الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لإنهاء الحرب، إذ تلقت ضربة قاسية باغتيال هنية، المحاور الرئيسي لحماس مع الوسطاء، مضيفةً أنّ الولايات المتحدة، والمنطقة، تكافحان يوميًا لإدارة أزمة أصبحت أكثر تعقيدًا وفتكًا.
ويبدو أن تل أبيب وواشنطن تبحثان عن أي انتصار بأي ثمن، إلا أن حكومة نتنياهو تغوص أكثر في حرب لا نهاية سريعة لها حتى الآن، فقد أقدمت إسرائيل خلال الأيام الماضية على ثلاثة أعمال، هي استهداف القيادي في حزب الله فؤاد شكر في ضاحية بيروت الجنوبية، واغتيال إسماعيل هنية في طهران، وثالثًا محاولة اغتيال محمد ضيف القيادي في كتائب القسام.
ويرى خبير القضايا الإقليمية مصدق مصدق بور في مقال له في صحيفة “تجارت” الإيرانية، أنّ العديد من المحللين يرون أنّ إسرائيل تتّبع سيناريو حذف القادة بتنسيق وتعاون من واشنطن، مقابل التقليل من قتل المدنيين، في وقت تتزايد فيه الانتقادات الدولية لقتل المدنيين من قبل إسرائيل بشكل حاد.
وأكد الكاتب أنّ محور المقاومة سيتخذ إجراءً محددًا ضد إسرائيل، رغم الرسائل الدبلوماسية المرسلة لطهران لثنيها عن الرد أو الحد من عمق واتساع الرد.
وبرأي مصدق بور، قد تعمل كل فصائل المقاومة الموجودة في سوريا والعراق واليمن ولبنان وحتى في الأراضي المحتلة، بشكل متزامن وموحّد، لاتخاذ إجراءات واسعة النطاق، عبر الهجمات الصاروخية والمسيّرات؛ بالإضافة إلى الهجمات المدفعية من قبل حزب الله.
كما يمكن، وفق الكاتب، أن يقوم كل فصيل بعمليّات منفصلة، بحيث تجد إسرائيل نفسها عالقة في نوع من حرب الاستنزاف طويلة الأمد، وأعمق مما كانت عليه في الماضي.
ووفقًا لتقديرات خبراء قضايا الشرق الأوسط، فإنّ الإسرائيليين ارتكبوا خطأ فادحًا باختيارهم طهران لاغتيال إسماعيل هنية، وذكّروًا بأنها ليست المرة الأولى التي تأتي فيها نتائج أفعالهم مخالفة لتصوّراتهم.
ويقول الخبراء إنّ هذه الأفعال دفعت محكمة العدل الدولية لإعلان الأرض الفلسطينية محتلة لأوّل مرة بعد 75 عامًا، وأشاروا إلى أنّ إسرائيل أصبحت الكيان الأكثر تنفيرًا في العالم.
ويرى المحللون الإيرانيون أنً إسرائيل أرادت باغتيال هنية إخافة طهران، بأنها تستطيع تنفيذ ما تريد في أي مكان ومن دون عوائق.
ولفت هؤلاء إلى أنّ الاغتيال تم في دولة تطوّع فيها نحو 10 ملايين مواطن للذهاب لفلسطين في اليوم الأول لعملية طوفان الأقصى، ووصفًوا الاغتيال بأنه مثّل تحفيزًا لقدرة الإيرانيين على مواجهة إسرائيل.
ويبقى أن إسرائيل لم تتمكن، خلال حرب الإبادة، من تحقيق أوهام نتنياهو، تلك التي أطلق عليها "الانتصار الحاسم"، والأغلب أن سياسة الاغتيالات لن تقربه من خيالاته، فقد جرب الاحتلال اغتيال العديد من قادة فتح، ومؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين، بل واغتالت الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات.
ولم تتوقف المقاومة ولا الكفاح من أجل الدولة الفلسطينية، وبمرور الزمن تتآكل قدرة الردع لإسرائيل وتزداد عزلتها، وتتحول لدولة منبوذة، والأرجح أن يزيد وعي الأجيال الجديدة في الغرب وأمريكا بعدم أخلاقية دعم عدوان إسرائيل، وعبثية الدفاع عن الاحتلال، بعدما بات واضحًا تكلفة دعم إسرائيل التي باتت عبئًا، ولم تعد قادرة على حماية نفسها بمفردها، أو كسب المعارك بدون تورط واشنطن، وهذه بداية النهاية.
وأحسب أنه لا مفر من الاختيار ما بين الاحتلال أو السلام، وإلا فنحن أمام حالة أخرى من "حرب بلا نصر"