اسمه كان كفيلاً بإنزال الرعب في ممالك أوروبا خلال العصور الوسطى، بلغت الحضارة الأندلسية في عهده أسمى مراتب الأُبهة والعظمة، جعل من مدينة قرطبة عاصمة للدنيا وقبلة العلم، حتى أُطلق على عصره "ربيع قرطبة"، ضُرب به المثل في تحقيق الغاية وعلو الهمة.. أينما تولى كان النصر في ركابه، فمن هو ذلك المنصور، "فتى الأندلس"؟.
موضوعات مقترحة
النشأة في الجزيرة الخضراء
كانت الأندلس خلال القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي قد بلغت أقصى درجات التحضر خلال حكم الخليفة الأموي عبد الرحمن الناصر)300ـ 350هـ/912ـ961م)، حيث دانت ممالك إسبانيا للأندلس بالخضوع، وفى كنف دولة الناصر، ولد طفل صغير يُدعى محمد بن أبى عامر في قرية "طُرش" التي كانت تقطنها قبيلة معافر اليمنية أقصى جنوب مدينة الجزيرة الخضراء عام (327هـ/ 938م).
وُلد محمد بن أبى عامر يتيم الأب، فكانت أمه تغزل الصوف وترسل ابنها محمد ليبيعه في الأسواق؛ كي يعتاشوا من هذا الغزل، نشأ الصبي مُحبًا للعلم على غرار والده الذي درس الفقه، قبل أن تحل به الوفاة في رحلة علمية قادته إلى طرابلس .
صورة لتمثال الحاجب المنصور فى الجزيرة الخضراء
الرحلة في طلب العلم
انطلق محمد ابن أبى عامر في رحلة لطلب العلم إلى قرطبة، وبصحبته ثلاثة من أصحابه، وفى الطريق إلى عاصمة الخلافة الأموية بالأندلس، أفصح لهم الفتى العامري بأنه ما توجه إلى قرطبة ليدرس العلم فقط، بل ليصبح "حاجبًا" وهو منصب الرجل الثاني في الدولة بعد الخليفة.
تعالت ضحكات أصدقاء ابن أبى عامر، وظنوا أن كلامه ضربًا من التسلية؛ كي يهون عليهم طول الطريق بين الجزيرة الخضراء وقرطبة، ولكنه أصر وطلب منهم أن يطلب كل واحد منهم أمنيته؛ كي يحققها لهم إذا ما صار إلى هذا المنصب الرفيع، فطلب أحدهم أن يكون وزيرًا للشرطة، وطلب الآخر أن يكون واليا على مدينة مالقة المشهورة بالتين الذى لا نظير له في الأندلس، فيما استهزأ به الثالث، وطلب منه أن يأمر الشرطة بحلق شعره وأن يمتطى حمارًا بالمقلوب، ويطوف به بالأسواق، وما هي إلا عشر سنوات حتى صار ابن أبى عامر حاجبًا، ونفذ ما قطع به من عهود لزملائه ، فجعل الأول وزيرًا ، والثاني واليًا، وأمر الشرطة بأن تحلق شعر الثالث وتطوف به على حمار في الأسواق.
كاتب على ساحة القصر
وما إن وصل محمد بن أبى عامر إلى قرطبة حتى توجه إلى مسجدها الجامع، وكان حينها أكبر جامعة لتدريس العلوم الدينية والعلمية في العالم، فدرس على يد أبرز شيوخه، حتى نال الإجازات العلمية التي تجعله كاتبا على باب مدينة "الزهراء" الملكية التي شيدها الخليفة الناصر لتكون عاصمة خلافته.
أهلت الملكات الأدبية التي امتلكها ابن أبى عامر في أسلوب كتابته بأن يتصل بكبار حاشية الخليفة الحكم المستنصر(350ـ 366هـ/ 961ـ976م)، وكان هذا الخليفة محبًا للعلماء والأدباء، حتى أنه كان يمتلك أكبر مكتبة امتلكها حاكم في التاريخ، وقد أقامت السلطات الإسبانية تمثالاً نصفيًا لهذا الخليفة في مدينة قرطبة.
تقرب الكاتب الشاب صاحب الملكات الأدبية والعلمية من "الخليفة العالم"، فجعله وزيرا للشرطة والخزانة، ومُشرفا على أملاك ولى عهده هشام المؤيد (366ـ399هـ/ 976- 1013م)، فنال ابن أبى عامر حُظوة كبيرة عند الخليفة وزوجته "صُبح".
تمثال الخليفة العالم الحكم المستنصر
حاجب الدولة
وفور وفاة الخليفة الحكم المستنصر، أصبح ابن أبى عامر واحدًا من صُناع القرار في الخلافة الأموية بالأندلس، وقوى حلمه القديم بالوصول إلى منصب "الحجابة" ، وهو أعلى المناصب في هرم السلطة بعد الخليفة، خاصة أن الخليفة لم يبلغ التاسعة بعد، وكانت أمه من أشد المعجبين بشخصية ابن أبى عامر.
كانت أول تلك الخطوات هو تحطيم سطوة " الفتيان الصقالبة"، وهم جنود استقدمهم خلفاء بني أمية في الأندلس من عدة ممالك أوروبية لتشكيل حاشيتهم، والدفاع عنهم، بيد أنهم أصبحوا قوة مُسلطة على رقاب المجتمع الأندلسي، فتخلص منهم بمساعدة الحاجب جعفر المُصحفى، حاجب الخليفة الحكم المستنصر، وبعد أن فرغ ابن أبى عامر من الصقالبة، توجه إلى المصحفى نفسه، فقد كان يرى فيه سببا من أسباب الفساد في الخلافة، فتحالف مع قائد الجيش غالب الناصري، الذي كان خصمًا لدودًا للمصفى حتى تخلص منه.
ومع إزاحة المصحفى، جلس ابن أبى عامر على كرسي الحجابة، وصيا على عرش خليفة صغير لا يُحسن التدبير، فاستمال ابن ابى عامر قلوب فقراء الأندلس، بتوزيع الأموال، مُستعينًا في ذلك برواج التجارة، وخزينة الدولة القوية، حتى أصبح دولة داخل الدولة الأموية، وتسمى بالحاجب "المنصور".
نجح المنصور في إدارة شؤون البلاد الاقتصادية، وشهدت البلاد في عهده رواجًا اقتصاديًا وزاد دخل الدولة حتى بلغت الضرائب العادية في أواخر عصره 4,000,000 دينار، بل وبلغت جباية قرطبة وحدها في عهده 3,000,000 دينار.
لوحة للمنصور بريشة الفنانين الإسبان
هزيمة ممالك إسبانيا
أدرك المنصور أن دولة الإسلام في الأندلس لن تهنأ بحضارتها واقتصادها المزدهر، ما لم تكبح أطماع الممالك الإسبانية في الشمال على الحدود بين فرنسا وإسبانيا، مثل ممالك ليون ،وقشتالة، ونافارا، وجيليقية، وبرشلونة، والتي كانت تغير على حدود الخلافة، فقاد بنفسه تلك الحملات الحربية التي لم تنقطع عن تلك الممالك صيفًا "الصوائف" أو شتاء "الشواتى"، وكان النصر حليفه في تلك الحملات التي بلغ عددها 57 حملة، حتى دانت له تلك الممالك بالطاعة، وبات اسمه مصدرًا للفزع لتلك الممالك وسائر أوروبا، حتى أن البابا في روما كان يعقد الصلوات من أجل صب اللعنات على هذا القائد المسلم الفذ.
الحضارة الأندلسية في زمن المنصور
وفى العمارة توسع المنصور في بناء المسجد الجامع بقرطبة حتى أصبح درة فريدة في تاريخ العمارة الإسلامية، وأعاد تجديد قنطرة قرطبة، وشيد مدينته الملكية المعروفة بـ"الزاهرة" والتي نقل إليها دواوين الدولة.
لوحة للمنصورعلى فراش الموت بريشة الفنانين الإسبان
الرحيل على رأس الجيش
وخلال عودته من أحد الحملات العسكرية، توفى المنصور في ليلة السابع والعشرين من رمضان عام (392هـ)/ الموافق لـ8 أغسطس عام 1002م، حيث أمر قبل وفاته بأن يدفن حيث مات، فدُفن بمدينة سالم، وهى أحد المدن العربية التي تقع شمال من مجريط "مدينة مدريد الحالية، وعاصمة أسبانيا".
وكان المنصور إثر كل حملة يقوم بها، يأمر بأن يؤخذ ما علق في ثيابه من غبار المعارك، حتى تجمع له صُرة عظيمة من الثرى، فأمر بأن تُنثر عليه في قبره، ووضع على القبر لوحة رخامية نُقش عليه تلك الأبيات:
آثاره تنبيك عن أخباره.. حتى كأنك بالعيان تراه
تالله لا يأتي الزمان بمثله.. أبدا ولا يحمي الثغور سواه
المسجد الجامع بقرطبة
وبرغم فرحة أوروبا حينها بوفاة المنصور، إلا أن الحكومة الإسبانية قد قامت بوضع تمثال نصفى للحاجب المنصور، فوق القمة الجبلية التي توفى عندها، ولا تزال تسمى هذه القمة بـ "قمة المنصور" ، كما قامت أيضا تمثالا للمنصور في مسقط رأسه بالجزيرة الخضراء، بينما يمسك كتابا، أثناء توجهه لطلب العلم في قرطبة .
ورغم المآثر العسكرية التي تمتع بها المنصور، وأن الأندلس قد بلغت في عهده أنصع عصورها الحضارية، إلا أن المؤرخين أخذوا عليه أنه كان سببا في ضعف الخلافة الأموية؛ لأنه كوّن دولة داخل الدولة، وأنها لم يتورع عن أي وسيلة تثبت أركان حكمه كحاجب للدولة، وقد ورث هذا المنصب لأولاده من بعده، حتي صارت الخلافة اسما وشعارًا ليس لها من الأمر شيء، وأصبح الخليفة مع الحاجب ضعيفا لا حول له ولا حيلة، وبهد أقل من 7 أعوام من وفاة المنصور، اشتعلت الثورة ضد ابنه عبد الرحمن المأمون، لتسقط الدولة العامرية، وتدخل الأندلس في فترة الفتنة الكبرى التي أدت في نهاية المطاف لسقوط الخلافة الأموية عام 422هـ/ 1031م، لتبدأ الأندلس عصرًا جديدًا من الضعف والتناحر هو عصر "ملوك الطوائف".
المسجد الجامع بقرطبة قنطرة قرطبة