رسالة من رئيس التحرير الجديد إلى صلاح جلال: المقاعد لم ولن تدوم لأحد.. والأهم دائمًا هو ماذا يقدم المرء فيها للحياة وللآخرين!
موضوعات مقترحة
عزت السعدني: اشترطت الجمع بين "بريد الجمعة" و"تحقيق السبت" بعد وفاة عبد الوهاب مطاوع.. لكن إبراهيم نافع رفض
فيلم "زوجة رجل مهم" مستوحى من رسالة نشرها عبد الوهاب مطاوع في بريد الجمعة
!
بدأ مشواره الصحفي تحت إشراف صلاح منتصر.. وكان أول صحفي يدخل مدينة العريش بعد تحريرها
عاش 22 عامًا بين المشاكل والهموم.. وكانت الناس تعيش حياتها وتقرأ مشاعرها من خلال كلماته
كان يكره الكتابة.. ويعاني من عذاب الشك في قيمة ما يكتبه
!
نجح في تحويل مجلة الشباب إلى صالون ثقافي من خلال مقالات كبار الكتاب في العالم العربي.. ومدرسة تعليمية تخرج فيها مئات الصحفيين
عاش 46 عامًا مخلصًا لمهنته.. و22 عامًا كاتمًا لأسرار أهل الحزن والهموم، رحل منذ 20 عامًا وما زال عطاؤه مستمرًا لدرجة أن بعض أصحاب المشاكل يقلبون في أجوبته القديمة لربما صادفت تفاصيل تشبه ما يعيشونه الآن، كان يتميز بقدرة فائقة على تجسيد المشاعر الإنسانية الراقية وتحويلها لحروف صادقة تنبض بالحياة، وقد أضاف سنوات طويلة لأعمار كل من حوله بخبرته ومعارفه وعمله الدائم حتى اللحظة الأخيرة، كما قال عنه صديقه الكاتب الكبير أحمد بهجت "لقد مات وتراب الطريق على قدميه".. أما الكاتب الكبير صلاح منتصر الذى التقى به عام 1958 وظل مرتبطًا به حتى وفاته عام 2004 فقال "لا أظن على مدى حياتي الصحفية أنني عرفت كاتبًا أو صحفيًا أكرمه قراؤه وقدروه مثلما حدث مع عبد الوهاب مطاوع ".
بداية المشوار
محمد عبد الوهاب مطاوع – اسم مركب محمد عبد الوهاب - من مواليد 11 نوفمبر 1940 بمحافظة كفر الشيخ، كانوا 8 إخوة وترتيبه الثالث، وروى في كتابه "حكايات شارعنا" بعضًا من ظروف نشأته، يقول: "كنا عائلة تجار درسوا بالأزهر.. ولكنهم لم يصبحوا مشايخ, لأن التجارة فى دمهم.. فانغمسوا فيها.. ورأيت أبي دائمًا نموذجًا للتاجر الصادق الأمين, ولا شك فى أن نشأته الإسلامية أعانته على ذلك, وطبعًا هذه البيئة ساعدتني كثيرًا فى حياتي الصحفية بعد ذلك، فمعرفتي الواسعة بأحكام الإسلام ترجع بدايتها إلى هذه الفترة.. كما أن الزهد فى الدنيا واللمسة الصوفية فى شخصيتي مرجعها جدي الأكبر رأس العائلة الشيخ محمد الشاذلي مطاوع.. وأتذكر فى طفولتي أنه كان يصطحب العائلة كلها فى رحلة إلى القاهرة تستغرق أكثر من أسبوع "يجاور" فيها الأولياء.. يعنى يزورهم ويبيت فى أقرب مكان هم مدفونون فيه مثل: سيدنا الحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة, ولا أنسى السيد البدوي فى طنطا".
وفي حوار نادر له أجراه مع الأستاذ محمد عبد القدوس في عام 2000، قال: "منذ شبابي المبكر أعجبت بنجوم الصحافة والأدب فى ذلك الوقت إحسان عبد القدوس ومحمد التابعى ومصطفى وعلى أمين وتوفيق الحكيم, وتمنيت أن أعمل فى هذا المجال, وكنت قارئًا لهما, وأنفق معظم مصروفي الأسبوعي وهو عبارة عن ربع جنيه فى شراء الكتب والصحف والروايات, وكنت شغوفًا بسلسلة "كتابك" التى كان يصدرها "حلمى مراد" وهى نظرة على الثقافة الأوروبية وحضارة الغرب، وسلسلة اقرأ وروايات الهلال, وعندما علم أبى بذلك شجعني, وجعل بند القراءة على حسابه، وعندما حصلت على التوجيهية سنه 1957 صممت على الالتحاق بكلية الآداب قسم صحافة, وكان هذا يعنى أن أترك أهلي وبلدتي, وانتقلت إلى القاهرة, وأراد أبى أن ألتحق بجامعة الإسكندرية حتى أكون بالقرب منه، لكنه فى النهاية احترم رغبتي رغم ما فى ذلك من تكلفه اقتصادية عليه, فقد كان عليه أن يدفع لى ضعف ما كان سيدفعه إن درست فى مدينة الثغر, وكنت أتقاضى مبلغا شهريًا خمسة وعشرين جنيهًا، وهو مبلغ يزيد عما كان يتقاضاه الموظف فى ذلك الوقت, وهكذا تغربت مبكرًا, لكننى حققت هدفي, وبدأت بالعمل فى الصحافة وأنا ما زلت طالبًا بتشجيع من الكاتب المرموق أحمد بهجب والكاتب الكبير صلاح منتصر, وكان رئيسًا لقسم التحقيقات بالأهرام ونشر لى أول موضوع عن المرور فى أغسطس 1958, وكان عمري وقتها 17 سنة, وقد علمتني الغربة الاعتماد الكامل على النفس, لكن كان لها بعض السلبيات أهمها حرماني من الدفء العائلي، كما أصابتني بنوع من الاكتئاب حيث عشت وحيدًا فى العاصمة الكبيرة دون أى سند ".
وبمناسبة شعور الوحدة، في كتابه "ترانيم الحب والعذاب" يقول: دخلت غرفة العمليات مرات عديدة.. وفي كل مرة كنت وحدي تمامًا بلا أهل يقفون بالباب ويترقبون كلمة تطمئنهم على مصيري، وهذا لا يرجع إلى قلتهم ولا إلى شجاعتي، كما قالت الطبيبة الأمريكية بعد أن سألتني قبل بدء الجراحة عمن ينتظرني بالخارج؟ لا تفسير لدي سوى أنني أحب الانزواء بهمومي وحدي دون الآخرين, وهو يرجع إلى الطبع الذي يجعلني أستكثر على نفسي أي عطاء يقدمه لي الآخرون، واجهت الحياة وحيدا بعيدا عن أسرتي لأكثر من 18 عاما قبل الزواج.
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
الوجه الآخر
كان أول تحقيق صحفى ينشره في الأهرام يوم 29 أغسطس 1958 على مساحة نصف صفحة تقريبًا عن مشكلة كثرة مخالفات السيارات في القاهرة بسبب "الركن في الممنوع"، وتألق عبد الوهاب مطاوع طوال مشواره المهني بسبب موهبته النادرة، وبدأ براتب 18 جنيهًا شهريًا، وظل يعمل فى قسم التحقيقات بالأهرام حتى سنه 1976.. وبعدها تولى الإشراف على صفحه اسمها "الوجه الآخر" تهتم بمشاكل الأقاليم وتصدر كل يوم ثلاثاء, وبدأ لأول مرة يكتب فى هذه الصفحة عمودًا أسبوعيًا تحت عنوان "رأى الوجه الآخر", وكانت هذه أول مرة يقوم فيها بالتعبير عن ذاته، وهذا الباب بالمناسبة كان يحرره قبله الأستاذ مكرم محمد أحمد، وسافر عام 1980 للعمل في جريدة الإتحاد الإماراتية قبل أن يعود ليترقى في جريدة الأهرام حتى أصبح سكرتير التحرير عام 1982 ثم نائبًا لرئيس التحرير عام 1984، وبعدها أصبح مدير تحرير الأهرام والمشرف علي الديسك المركزى بالجريدة، كما كان عضوًا بمجلس إدارة الأهرام، وعضوًا بمجلس قسم الصحافة بكلية الإعلام بجامعة القاهرة كأستاذ غير متفرغ، وكان صحفيًا متميزًا وله مئات التحقيقات والحوارات.. وكان أول صحفي مصرى يدخل مدينة العريش بعد تحريرها ويسجل بقلمه لحظات رفع العلم المصرى على أرضها، وكان مشهورًا بقدرته غير العادية على التقاط الفكرة.. ووضع عناوين جذابة ومبتكرة، كما كان صاحب مدرسة خاصة في كتابة مقدمات موضوعاته، وكانت ثقافته موسوعية مع إتقانه للغتين الانجليزية والفرنسية، كذلك لعبد الوهاب مطاوع مجموعات قصصية وله إسهامات في أدب الرحلات، وله العديد من المؤلفات ضمت ما كان يجمعه من رسائل للقراء وردوده عليها أو روايات من وحي القصص الإنسانية التي كانت ترد إليه، وقد حصل على جائزة مصطفي أمين كأفضل صحفي يكتب في الموضوعات الاجتماعية والإنسانية.
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
القلم الرحيم
في أثناء سفره بأحد القطارات.. قابل الأستاذ عبد الوهاب مطاوع صديقًا من أيام الطفولة يبيع المجلات القديمة للركاب, كان الصديق زعيما للأطفال الصغار ومنهم هو نفسه، وقد أصبح في تلك اللحظة كاتبا كبيرا ورئيسا لتحرير مجلة الشباب، وعندما اقترب صديق الطفولة منه ونظر إليه عرفه بسهولة.. ولمع بريق التذكر في عينيه, لكن قبل أن ينطق كاتبنا الكبير بكلمة واحدة ليتذكر أيام الطفولة الجميلة, تجاوزه صديقه بسرعة وواصل عرض بضاعته على الآخرين، وعندما ابتعد عنه أنشد بصوت جميل كله شجن: ودع هواك وأنساه وإنساني.. عمر اللي فات ما هيرجع تاني! ثم أضاف: بربع جنيه المجلة! وبالفعل كانت لحظة كاشفة لدراما الحياة التي طالما بحث عنها، وبين كل إسهامات عبد الوهاب مطاوع في طريق الحياة.. يظل باب "بريد الجمعة" النقطة المضيئة التى منحت الأمل لأصحاب آلاف الرسائل منذ عام 1982 وحتى يوم وفاته يوم الجمعة الموافق 6 أغسطس 2004، وقد كان البريد عند تولي الإشراف عليه مجرد مساحة صغيرة يومية لنشر مشاكل المواطنين، بينما يخصص البريد الأسبوعي لردود المسئولين على هذه المشاكل، ولكنه أحدث ثورة شاملة بعدما قرر تخصيص مساحة البريد لمشاكل أخرى من حياة الناس لها علاقة بالزواج والأبناء والعلاقات الاجتماعية والمشاعر، ولم يكن مجرد شخص يسمح للآخرين بأن يفضفضوا إليه.. لكنه اعتبر البريد مساحة يساهم فيها قدر الإمكان بإعادة صياغة أخلاقيات المجتمع بشكل مثالي، كأنه ماكينة ضخمة تسع كل تناقضات الحياة وقسوتها ثم تخرج عصارتها أملًا وتفاؤلًا، كان صوتًا لمن بح صوته من الشكوى والألم والمعاناة، عاش سنوات طويلة يمسح بكلماته دموع آلاف الناس من خلال قدرة غريبة اختصرها الكاتب الراحل أسامة أنور عكاشة قائلًا: "كان عبقريا فى إبداع مشاعر الناس ومشاكلهم ووصف أحاسيس ما تحت الجلد"، كان شعاره "دوري يا دنيا كما تشائين وارفعي من تشائين، لكنّك أبدًا لن تغيّري من الحقائق، ولا من المثاليّات الصحيحة أو الأفكار السّليمة " وهو ما جعل الكثيرين يطلقون عليه لقب "صاحب القلم الرحيم"، فقد كان يتصدى شخصيًا ومن خلال مكتبه وطاقمه المعاون لمساعدة الناس وحل مشاكلهم سواء كانت مادية أو اجتماعية أو صحية، كانت الناس تعيش حياتها وتقرأ مشاعرها من خلال كلماته، وظل 22 عامًا يعيش بين مشاكل وآلام الناس، وكان من أسباب زيادة التوزيع لعدد الجمعة بالأهرام، كما تحول في سنواته الأخيرة إلى نجم تلفزيوني.. حيث تم إعداد برنامج أسبوعي "لحظة صدق" على الفضائية المصرية منذ نهاية 2001 تلقى خلاله اتصالات المصريين والعرب مباشرة ليقدم نصائح واستشارات اجتماعية حول مشاكلهم الخاصة والأسرية، وقد أطلق نجيب محفوظ على بريد الأهرام في عهد عبد الوهاب مطاوع "نبض مصر".. وأكثر من ذلك تبرع بهبة للبريد بعد فوزه بجائزة نوبل وأعطى لعبد الوهاب مطاوع الحرية كاملة لتحديد أوجه الصرف.
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
حكايات الألم
وتذكر عبد الوهاب مطاوع في حوار قديم له أول رسالة نشرها فى أهرام الجمعة، يقول: "كانت رسالة مؤثرة جدا من شاب فقد طفله, وقررت أخته أن تلغى حفل السبوع الخاص بوليدها مشاركة منها لشقيقها فى مأساته، إلا أن الأخ رفض مسلك أخته, واصطحب بنفسه كل أطفال العائلة فى سيارته وذهب الجميع إلى منزلها وأخذ يغنى للصغار من قلب مجروح.. ولم يستطع أن يدخل البهجة إلى قلوبهم بسبب دموعهم، وهكذا تحولت المناسبة السعيدة إلى نكد، وأرسل يسألني: هل أخطأت فى تصرفي هذا؟! كانت فى رسالته حرارة عجيبة: قلت له : أنت إنسان عظيم, وطلبت من القراء أن يشاركوا برأيهم, فوصلني أكثر من 60 خطابًا, وكان هذا أمرًا جديدًا على الصحافة المصرية يتمثل فى المشاركة الإنسانية لمشاعر الآخرين, والاهتمام بأمر إنسان لم تره فى حياتك.. وقد أصبحت هذه المشاركة الوجدانية من العلامات المميزة لصفحة الجمعة"، كما تذكر أغرب رسالة استقبلها وهي "من رجل كان يحتج على معاملة الناس له، والسبب أنه غاوي تقبيل أحذية السيدات! لذلك كثيرًا ما تلقى الصفعات والركلات مع أنه كان يتصور العكس, وهل تحلم امرأة بأن يقوم رجل بتقبيل حذائها مهما بلغ عشقه لها؟ وكان ملخص ردى عليه أنه لابد من العلاج عند طبيب نفسي فى أسرع وقت ممكن حتى لا يتلقى مزيداُ من اللكمات والشلاليت !! أيضًا وصلتني رسالة من رجل يطلب فيه من الزوجات تقوى الله فى أزواجهن , ويحكى تجربته مع زوجته, فقد عاش معها ثلاثين سنة ذاق فيها المرّ!! وكان يشاهد فى معظم الأحيان "قفاها".. لأنها فى حالة خصام لا ينقطع معه، ولذلك كانت تشيح بوجهها بعيدًا عنه وعندما ماتت فرح.. وأخذ يدعو عليها وهو يسير فى جنازتها: اللهم ضيق عليها فى قبرها.. اللهم شدد عليها.. اللهم لا تغفر لها خطاياها"، أما أجمل رسالة فكانت من أم فوق الستين مقيمة فى حلوان فقدت ابنها الشاب فجأة فأرسلت ترثيه.. الخطاب كان به 24 وصفًا لفلذة كبدها "على طريقة الطباق" مثل: كان ليلى ونهاري.. أرضى وسمائي.. شمسي وقمري.. يومي وغدي"، أيضًا أشار إلى رسالة نشرها تحت عنوان "الشقيقان".. شاب عمره 17 سنة وأخوه عمره 13 سنة.. أبوهما رجل عطوف حنون توفى عقب مرض مفاجئ بعدما كرس حياته لتربية أولاده عقب وفاة أمهما, وهكذا أصبح الولدان بلا سند ولا عائل فى المدينة الكبيرة, واضطر جدهما العجوز الذى يعيش فى الصعيد أن يمكث معهما بضعة أيام قبل أن يعود مرة أخرى إلى بلدته حيث توجد مصالحه, وفكر أن يصطحبها معه إلا أن ظروف دراستها حالت دون ذلك.. فقام بتنظيم أوضاعهما المالية والاجتماعية, وقبل أن يتركهما أخذ يدق أبواب الجيران ويوصيهم باليتيمين, وشكرهم على "تحنان" قلبهم عليهما، ويقول الأستاذ عبد الوهاب مطاوع " كانت هذه أول مرة اسمع فيها كلمة تحنان وهى مشتقة من حنان,وطلب الشقيق الأكبر منى أن أكتب مشجعًا لشقيقه لأنه مصاب بحالة اكتئاب، فقد شاهده يقوم بإطعام بعض القطط , فانشرح صدره, وأخذ يشرح لأخيه ثواب ذلك إلا أنه فاجأه قائلًا: إحنا زى القطط ما لناش أهل ".
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
رئيس التحرير
تسلم عبد الوهاب مطاوع مسئولية رئاسة التحرير في نوفمبر 1986 من مؤسسها الأول الأستاذ صلاح جلال الذى قضى بالمجلة 10 سنوات و5 أشهر أصدر خلالها 113 عددًا، وقد اختتم عبد الوهاب مطاوع أول مقال له في مجلة الشباب مخاطبًا صلاح جلال بعدما طلب منه الاستمرار في المجلة مستشارًا لتحريرها "إذا كانت المقاعد لا تدوم لأحد يا سيدى ولن تدوم.. فإن الأهم منها دائمًا هو ماذا يقدم المرء فيها للحياة وللآخرين "، وهنا نشير لحقيقة مهمة.. وهي أن مجلة الشباب صدرت بمناسبة احتفال مؤسسة الأهرام بمئويتها – أغسطس 1876 – باسم "الشباب وعلوم المستقبل" وكانت طبيعتها علمية خالصة وموضوعاتها شديدة العمق والتخصص، وكان لها شكل خاص في الصور والورق والتبويب والغلاف.. وعندما تولي عبد الوهاب مطاوع المسئولية يمكن القول بأنه أعاد إصدارها من جديد لتقترب من الشكل الذى ما زالت عليه حتى الآن، وكان رئيس تحرير بشخصية منفردة، مهنيًا كانت أرقام التوزيع القياسية لمجلة "الشباب" تشهد بأنه صنع إصدارًا صحفيًا ظل لسنوات طويلة الأكثر انتشارًا وتأثيرًا ومبيعًا في مصر، وإنسانيًا جعل من المجلة أرضًا خصبة لاكتشاف عشرات المواهب التى تنتشر الآن في كل الإصدارات الصحفية بالأهرام وبقية المؤسسات، وهذه التجربة الفريدة كانت تحمل بصماته لدرجة أنها التصقت به تمامًا كما كان ذكر بريد الجمعة يستدعي في الخيال صورة واسم عبد الوهاب مطاوع، الحال نفسه في مجلة الشباب التى كانت مرتبطة به حتى لسنوات طويلة بعد رحيله، تقول الأستاذة راوية سالم مديرة تحرير المجلة والتي عملت مع الأستاذ عبد الوهاب مطاوع نحو 17 عامًا: بدأت مشواري مع الصحافة بالقسم العلمي بالأهرام، وعاصرت مع الراحل صلاح جلال تأسيس مجلة الشباب "الشباب وعلوم المستقبل" وكنت أكتب فيها موضوعات وأبوابًا مختلفة، وبعد فترة انتقلت من جريدة الأهرام إلى مجلة الشباب، ثم تولى عبد الوهاب مطاوع رئاسة تحرير المجلة وقام بتغيير شامل في مضمونها، فهو أدخل إليها الفنون الصحفية المختلفة من حوارات وتحقيقات وتقارير وموضوعات خارجية مترجمة، وشهدت صفحات المجلة الرحلات والندوات الفنية والرياضية، كان كل عدد يضم انفرادات بالجملة ونجح في تحقيق معدلات توزيع قياسية لم تحققها أي مجلة أخرى ليس فقط في مصر.. بل في العالم العربي، ونجح في تغطية كل اهتمامات الشباب وتغير اسم المجلة إلى "الشباب" بداية من يناير 1989 وأصبح شعارها "الشباب من كل الأعمار"، كان يؤمن بأن الصحافة ليست مجرد وسيلة لنقل الأخبار.. وإنما هي في حد ذاتها رسالة هدفها إيقاظ الوعي الإنساني واطلاعه على ما يدور حوله من أحداث التاريخ ووقائعه، وكانت المجلة صالونًا ثقافيًا منشورًا من خلال مقالات كبار الكتاب في العالم العربي، كل هذا بلا لفظ خارج أو عبارة غير لائقة أو صورة تخدش الحياء.. كان يضع نفسه دائمًا مكان القارئ ويسأل "هل ترضى لأولادك قراءة هذا الموضوع.. أو مشاهدة هذه الصور؟"، وكان صاحب مدرسة تعليمية تخرج فيها مئات الصحفيين المنتشرين حاليًا في كل صحف ومجلات مصر، تعامل مع تلاميذه بمنطق أبوى.. يقسو أحيانًا لكنه يعلم ويربي ويترك الأثر الطيب الذى لا تمحوه تقلبات الأيام، وساعده في ذلك أن الجميع كان يتعامل معه باعتباره "النجم المشهور والموهوب العبقرى" قبل أن يكون رئيس التحرير، كان يؤمن بالتعليم بالملاحظة ونادرا ما يعطى تعليمات مباشرة نظرية.. بل بالتجربة فقط يكون التعلم، كان السهل الممتنع.. من شدة وضوحه تكتشف بعد سنوات أنك لم تعرف عنه شيئًا.
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
أعمال فنية
في عام 1985 وصلت لبريد الجمعة رسالة قام الأستاذ عبد الوهاب مطاوع بوضع عنوان لها "رجل مهم"، وقد نشرها كذلك ضمن فصول كتابه "أصدقاء على ورق" والذي صدرت الطبعة الأولى منه في عام 1986، وتفاصيل الرسالة هي بالنص قصة فيلم "زوجة رجل مهم" لأحمد زكي وميرفت أمين، و"زوجة رجل مهم" ليس الفيلم الوحيد الذي استوحت أحداثه من رسائل بريد الجمعة، فهناك فيلم "الحب بين قوسين"عام 1993 وهو من تأليف عبد الوهاب مطاوع عن إحدى رسائل البريد وكتب السيناريو والحوار له نبيل عصمت وأخرجه أشرف فهمي وقامت ببطولته شهيرة ومحسن سرحان، وكذلك فيلم"صائد الأحلام" وهو عن قصه حقيقية بنفس العنوان أرسلها شاب للراحل عبد الوهاب مطاوع، وقد تم عرض الفيلم سنة 1988 وهو من بطولة ممدوح عبد العليم وصابرين وحنان شوقي وعبد الله محمود، وتليفزيونيًا قدم عبد الوهاب مطاوع من تأليفه مسلسلًا اسمه "خرافة اسمها الفشل" وقد عرض عام 1993 من بطولة ممدوح وافي وإسعاد يونس، ومسلسل "قلوب حائرة" وعرض عام 1996 في حلقات اجتماعية منفصلة من بطولة سوسن بدر وحمدي غيث ومحمود الجندي وطارق دسوقي ونوال أبو الفتوح، ومسلسل "افتح قلبك" وعرض عام 1999 وهو أيضًا حلقات اجتماعية منفصلة من بطولة دلال عبد العزيز وإبراهيم يسري ومحمود الجندي وخيرية أحمد، ومسلسل "سندس وأخواتها" في عام 2001 من بطولة تيسير فهمي وعبد الرحمن أبو زهرة وسميرة عبد العزيز، ومسلسل "أحلام سارة" وقد عرض في 2005 بعد وفاته وهو من بطولة محمد رياض وجيهان فاضل وعلا غانم، وأيضًا كانت هناك سهرة تليفزيونية من تأليف عبد الوهاب مطاوع بعنوان "عودة الهارب" قام ببطولتها طارق الدسوقي وبثينة رشوان وسيد عبد الكريم، وسهرة ثانية بعنوان" شيء من الرومانسية " قامت ببطولتها سوسن بدر وإبراهيم يسري، وسهرة ثالثة بعنوان "حفل الزفاف" من بطولة حسين الشربيني وعبد الله محمود ونورهان، وكذلك سهرة رابعة بعنوان "صورة تذكارية" عرضت عام 1999 من إخراج ياسين إسماعيل ياسين وبطولة عمر الحريري ونسمة النجار وأحمد الدمرداش، وسهرة خامسة بعنوان "أيام الطفولة" عرضت عام 2001 من بطولة سوسن بدر ورشوان توفيق وحنان مطاوع، وكل هذه المسلسلات والسهرات التليفزيونية هي في الأصل مستوحاة من قصص حقيقية نشرت في بريد الجمعة خلال الفترة بين 1982 و2004، ومؤخرًا هناك عدد كبير من المسلسلات استوحت أحداثها من رسائل بريد الجمعة التي كان يحررها عبد الوهاب مطاوع، وبعضهم للأسف لا يذكر ذلك، لكن البعض أشار صراحة لهذا ومنهم المخرج محمد سامى والذي أكد أن بعض الأحداث في مسلسل "البرنس" استوحاها من رسائل بريد الجمعة التي تناولت صراعات الأشقاء على الميراث، والأمر ذاته مع المؤلف أحمد عبدالفتاح الذى أكد أنه استعان بـ" بريد الجمعة" كمصدر أساسى للحياة فى حقبة الثمانينات من خلال مسلسل "ليالينا 80".
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
شهادة صديق العمر
إذا كان الراحل عبد الوهاب مطاوع هو رائد الصحافة الإنسانية التي تستمد تفاصيلها من حكايات الناس المقروءة عبر رسائلهم في بريد الجمعة، فإن الراحل عزت السعدني كان بلا جدال رائد هذه الصحافة المسموعة من أصحابها بالشارع، وقد عاش الاثنان طوال 45 عامًا أصدقاء عمر لا يفترقان وزملاء مهنة يتنافسان بشرف، وكان همهما الأول هو نبض الناس والعيش وسط آلامهم وأحلامهم اليومية، وقبل وفاة الأستاذ عزت السعدني كان كاتب هذه السطور قد أجرى معه حوارًا بالكامل عن صداقته بالراحل عبد الوهاب مطاوع، وكان مما قاله: "عبد الوهاب مطاوع كان قطعة مني وأنا قطعة منه، كان يعيش في شقة بالمنيل بمفرده في بداية حياته الصحفية، وأنا أجيء كل يوم من القناطر بالقطار، وعشت معه أيامًا كثيرة عندما كان الوقت يتأخر بي خلال العمل، وقد بدأت عملي بالأهرام عام 1959 وهو جاء قبلي بعام حينما كان يدرس الصحافة بكلية الآداب، أما أنا فجئت بعد التخرج، وكنا متقاربين في السن والاهتمامات، والصحافة أيامنا كان أساسها الموهبة وأن تكون صاحب فكر وأسلوب ومبدأ، وكنا نتنافس في تحقيقات الصحافة الإنسانية، هو كان يميل للتحقيق القصير المباشر الذي يتناول حادثة بعينها.. وأنا عشقت التحقيقات الكبيرة التي تعبر عن ظواهر اجتماعية عامة، وعملنا معًا سلسلة تحقيقات ضمن حملات صحفية تناولت مشاكل ارتفاع الأسعار وهموم طلاب الجامعة، وزرنا كل مكان في مصر من قبل حتى التعيين رسميًا بالأهرام، وبمرور السنين توطدت علاقتنا خاصة مع مجيء الأستاذ صلاح هلال أفضل رئيس قسم تحقيقات في تاريخ الصحافة المصرية، ثم توليت أنا رئاسة القسم وسافر عبد الوهاب مطاوع للعمل بالخليج لفترة، وعندما عاد بدأ يحفر لنفسه مكانة خاصة بعيدًا عن الجميع من خلال بابه الشهير"بريد الجمعة" والذي كان مدخله العظيم الذي أوصله لقمة الهرم الصحفي، وفي كل مشواره كان سلاحه الوحيد هو موهبته وإيمانه بالتواصل الإنساني والحياة مع هموم الناس.
وعن ذكرياتهما التي لم ينسها، قال:علاقتي أنا وعبد الوهاب مطاوع كانت رائعة بالأستاذ نجيب المستكاوي الناقد الرياضي العظيم، وبعدما أثبتنا أنفسنا في التحقيقات بدأنا في عمل حوارات رياضية.. عبد الوهاب كان زملكاويا متعصبا وأنا أهلاوي متعصب، هو أشتهر بحواراته مع حمادة إمام وعصام بهيج وغيرهما وأنا حاورت معظم نجوم الأهلي أيامها مثل صالح سليم وميمي الشربيني، وبعد سنوات كان عبد الوهاب يكتب قصصًا إنسانية عن اللاعبين وأنا أجريت حوارًا مع علي أبو جريشة، ومرة كنت أجلس مع المستكاوي في حديقة نادي الزمالك في حضور الكابتن محمد لطيف وقال لي: "قل الحق ولو علي نفسك، يعني لو لقيت زميلك عبد الوهاب مطاوع أفضل منك في تحليل شخصيات اللاعبين كما فعل مع مصطفى رياض وحسن الشاذلي، اتركه يكتب وابحث لك عن مواضيع أخرى يستطيع قلمك أن يكتبها أفضل منه. ولا تزاحمه في مجال هو تفوق فيه أصلا!"، أيضًا في يوم اتفق الأستاذ محمد حسنين هيكل مع الأستاذ مصطفى أمين على تنظيم مباراة كرة قدم بين الأهرام وأخبار اليوم على كأس الصحافة، وأبلغنا الأستاذ بأنه لا مفر من فوزنا بالمباراة، وكان فريقنا مكونًا من صلاح منتصر ونجيب المستكاوى وعبدالوهاب مطاوع وسعيد عبدالغنى وإسماعيل البقرى وأنا وكامل المنياوى ويحيى التكلى وبعض موظفى وعمال الأهرام، وتم شراء ملابس رياضية للجميع وأحذية رياضية وتوجهنا بإحدى عربات توزيع الأهرام إلى نادى الترسانة حيث أقيمت المباراة، وتم اختيار محمد الطيب مدربا لفريق الأهرام.. وأتذكر أن صلاح منتصر لم يكن وقتها أحد لاعبى الفريق لكنه قرر المشاركة فى آخر لحظة واستعار حذاء من النجم الكبير حسن الشاذلى والذى أبلغه بأن هذا الحذاء يعرف طريق المرمى! وفوجئنا بالأستاذ هيكل فى غرفة تغيير الملابس قبل المباراة يتقمص دور المدرب ويطالبنا بالفوز قبل أن يصعد للمقصورة ويجلس بجوار مصطفى أمين، وقبل نهاية المباراة مرر صلاح منتصر الكرة لي فانفردت بالمرمى وسجلت هدف المباراة الوحيد الذى فزنا به، وبعدما توفي عبد الوهاب قال لي إبراهيم نافع "اكتب بريد الأهرام"، ووافقت لكن بشرط أن أكتب أيضًا "تحقيق السبت"، فقال لي: "صعب.. اختر يومًا واحدًا فقط لتكتب فيه، فاخترت الاستمرار مع مشروع حياتي "تحقيق السبت"، ومازلت أعيش صدمة عدم وجود عبد الوهاب مطاوع في حياتي.. فجزء كبير من أيامي الحلوة عشتها معه والراحل محمد زايد، وأذكر مرة كنا نتمشى نحن الثلاثة في وسط البلد سنة 1960، وفجأة توقف عبد الوهاب وأشار لرجل يمشي على الرصيف المقابل وقال بانبهار "هل تعرفون من هذا.. إنه بيرم التونسي" ! جرينا على الرجل الذي فوجئ بنا نلتف حوله، فجلسنا على مقهى وكان بسيطًا جدًا وقبل أن يودعنا أخبرنا بأنه اليوم سيقابل أم كلثوم وزكريا أحمد ومحمد القصبجي لإجراء بروفات على أغنية "هو صحيح الهوى غلاب" وعزمنا أن نذهب للاستماع لكن بشرط أن نجلس بعيدًا عن الفرقة الموسيقية، وكانت أجمل ليلة في حياتي.
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
المشهد الأخير
آخر صورة للأستاذ عبد الوهاب مطاوع كانت خلال ندوة نظمتها مجلة الشباب يوم 25 يوليو 2004 بمناسبة فوز المقاولون العرب بقيادة حسن شحاتة بكأس مصر على حساب الأهلي، وكان رحمه الله يبدو عليه المرض الشديد.. وبعدها بيوم واحد قام بتسليم آخر صفحة لبريد الأهرام، ثم سافر للإسكندرية وتوفي يوم 6 أغسطس عام 2004، وقد وصف حياته قائلًا: أنا من المعجبين كثيرا بكلمة الفيلسوف الفرنسيّ "رينوفيه" الذى عاش حياة خصبة طويلة وملأ المجلدات بأفكاره وآرائه، ثمّ قال: "سأترك الّدنيا قبل أن أقول كلمتي النّهائية.. لأنّ الإنسان يموت دائما قبل أن يتم عمله.. وهذا أشدّ أحزان الحياة إثارة للشّجن"، وعبد الوهاب مطاوع نفسه قال في رده على أحد المجروحين "الأعزاء لا يموتون حين يواريهم الثرى، وإنما يموتون حقا بالنسيان".
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
الاستاذ عبد الوهاب مطاوع
خلاصة التجربة
عبد الوهاب مطاوع صارح قارئه مرة قائلًا: "لا تصدقني إذا قلت لك مرة إنني جلست لأكتب مقالا فأخذتني "نشوة الكتابة" ولم أشعر بالوقت وهو يسرقني.. فالحق أنى لا أكره شيئا فى الحياة مثلما أكره الكتابة. ولو تركت لنفسى ما جلست إلى مكتبى إلا لأقرأ واستمتع بما عانى غيرى لكى يسطره على الورق.. وليس هناك بالنسبة لى شىء اسمه نشوة الكتابة وإنما هناك شىء اسمه عناء التفكير "وغلب" التدقيق فى كل كلمة وشقاء الرجوع للمراجع لتوثيق أى معلومة تأتى عرضا فى مقالى.. ثم هناك بعد كل ذلك عذاب الشك فى قيمة ما كتبت وقلق الخوف من ألا يستحق عناء القراءة أو قبول القارئ له أو استحسانه"، ورغم أنه أضاع نصف عمره في الاستماع لمشاكل الناس.. لم يكن أحد ينظر لمشاكله هو الخاصة، حتى انه كتب ذات مرة "رغم أنني أرحب دائما بسماع هموم ومشاكل الآخرين.. فإنني أفتقد أحيانا من يسمع مشاكلي وهمومي"، أما أصعب دروس الحياة في رأيه فهي أن يتعلم الإنسان كيف يقول "وداعا ". #