انطلاقًا من الحرص الشديد على عدم التعدي على (ممتلكات الدولة) لاسيما ما يخص التعدي على ضفاف النيل فإن القيادة السياسية للدولة المصرية المتمثلة فى الرئيس عبدالفتاح السيسي والحكومة المصرية والقيادات التنفيذية المختصة بمحاربة التعدي على أملاك الدولة قد أولت هذا الملف أيما عناية واهتمام.
ومن واقع هذه العناية وهذا الاهتمام فقد لفت انتباهي أحد المقاطع المصورة التي تذاع من فترة لأخرى على القنوات الفضائية للرئيس عبدالفتاح السيسي قائلًا: لا نقبل بالتعديات على قدرات الدولة من أجل تحسين أحوال المواطنين.. "واللي بيتعمل في مصر فوق الخيال"، علاوة على مطالبته بدفع للدولة حقها"..
هنا دار في مخيلتي ومن خلال احتكاك مباشر مع ملف الزراعة، الذي تخصصت في الكتابة عنه لعدة سنوات، هذا الملف ربما قل الحديث عنه هذه الأيام، ولا بأس من التذكير به، فإنه رغم الجهود المبذولة لدعم الاقتصاد الوطني إلا أنه مازال استرداد حق الدولة في أراضي طرح النهر، أو من تحويل نشاط الأراضي الزراعية إلى آخر استثماري، بمثابة أموال مهدرة وتحتاج إلى إعادة تقييم وإجراءات سريعة وفعالة لاستعادة حق الدولة.
وقد يتساءل البعض عن أراضي (طرح النهر)؛ وهي لمن لا يعرف، تلك الأراضي الطينية على جانبي نهر النيل، وفروعه (كفرع دمياط وفرع رشيد)، وتنتج أيضًا لحركة منسوب مياه نهر النيل، وهذه الأراضي مملوكة للدولة وواقعة بين جسري نهر النيل وفرعيه دمياط ورشيد، والتي يحولها النهر من مكانها أو ينكشف عنها الجزر التى تكونت أو تتكون في مجراه.
وتعد هذه الأراضي الأعلى قيمة عقاريًا على مستوى الجمهورية؛ بسبب موقعها المميز؛ حيث استغلها البعض في البناء وإقامة أنشطة مختلفة من نواد اجتماعية وقاعات أفراح ومساكن ومشروعات تجارية واستثمارية وأخرى زراعية؛ حيث تعد من أخصب الأراضي، الأمر الذي وصل إلى قيام البعض بردم مساحات شاسعة لضفاف نهر النيل وفروعه كفرع دمياط وفرع رشيد على مستوى الجمهورية تصل إلى آلاف الأمتار؛ لبناء "كافيهات وملاعب وتوسيع منازل وحدائق ملحقة بمنازل وعشش..إلخ"؛ مما يهدد ضفاف نهر النيل الذي يعتبر شريان الحياة بمصر.
وتصل هذه المساحات المتعدى عليها بطرح النهر، طبقًا لتقرير صادر عن وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، إلى ما يقرب من 100 ألف حالة، بإجمالي أكثر من 26 ألف فدان، بالإضافة إلى البناء على مساحة 4 ملايين و562 ألف متر مربع في 13 محافظة، هذا بخلاف مساحات تم ردم فروع النيل والبناء عليها.
وتتبع أراضي طرح النهر إشراف الهيئة العامة لمشروعات التعمير والتنمية الزراعية التابعة لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي، وتقوم حاليًا الهيئة بتسليم هذه المساحات بحضور مسئولي هيئة المساحة المصرية على مستوى الجمهورية بنقل وتسليم هذه المساحات لوزارة الري طبقًا للقانون، وقرار رئيس مجلس الوزراء، وكانت تحكم أراضي طرح النهر بموجب العديد من الأطر القانونية، لعل أولها القانون الصادر عام 1932 لتنظيم التعامل مع هذه الأراضي كأملاك للدولة، فضلًا عن ولاية أي من أجهزة الدولة عليها، ولكن صدرت ما يقرب من 7 قوانين أخرى منظمة، وظلت تبعية هذه أراضي طرح النهر حائرة بين عدد من الوزارات والهيئات، إلى أن استقر بها المقام حاليًا إلى وزارة الري والموارد المائية.
ونحن نكتب هذه الكلمات تأكيدًا لما قاله الرئيس عبدالفتاح السيسي، عندما وجه بإزالة التعديات على الأراضي قائلًا: "إن أراضي أملاك الدولة هي حق أصيل لكل المصريين، ولن يٌسمح بالمساس بها" فالوضع بالنسبة لهذه التعديات أصبح أمرًا واقعًا، وتقوم أكثر من جهة بتحصيل مبالغ من ساكني القصور والفلل وأصحاب الكافيهات وقاعات الأفراح على فروع النيل، لا تتناسب مع قيمة هذه المواقع الإستراتيجية، إضافة إلى قيام البعض بالتعدي على مساحات كبيرة، ويتعامل معها كأنها أصبحت ملكية خاصة تورث لأبنائه وأحفاده من بعده.
كما تقوم هيئة الإصلاح الزراعي بتحصيل المبالغ المستحقة طبقًا للقرارات الوزارية المنظمة لذلك، لصالح هيئة التعمير والتنمية الزراعية، طبقًا لتوجيهات وزير الزراعة واستصلاح الأراضي، عن طريق تفويض لتحصيل حق الانتفاع والحصر بالنيابة عنها، كما تقوم هيئة الضرائب العقارية أيضًا بالتحصيل لصالح وزارة الري والموارد المائية للأغراض المقامة على مجاري نهر النيل والمجاري المائية؛ حيث نصت القرارات الوزارية لوزير الري أرقام 192 و193 لسنة 2023 على قيمة مقابل حق الانتفاع بالترخيص على مجرى النيل والمجاري المائية، وهذه القيم من وجهة نظري تحتاج إلى إعادة نظر ووضع حل جذري لاستعادة حق الدولة وتقنين الوضع بالنسبة لواضعي اليد بطريقة تريح الطرفين الدولة والمواطن.
وعلى سبيل المثال تحصل الدولة شهريًا 5 جنيهات عن المتر للمساحات المستغلة داخل الكردون؛ كمواقف للسيارات و3 جنيهات إذا كانت خارج الكردون و10 جنيهات للمتر بالقاهرة الكبرى، أما بالنسبة لأغراض الترفيه كازينوهات وملاهي وكافتيريات ومنتزهات وقاعات الأفراح والنوادي 20 جنيهًا للمتر داخل الكردون و15 جنيهًا للمتر خارجه، أما بالنسبة لأعمال البناء فيتم المحاسبة ب 2 جنيه للمتر المسطح شهريًا داخل الكردون، وجنيه واحد للمتر المسطح خارج الكردون؛ مما يعني أن المتعدي لو قام ببناء فيلا أو قصر على مساحة 300 متر يقوم بدفع 600 جنيه شهريًا داخل الكردون بإجمالي 7200 جنيه سنويًا كحق انتفاع، وأيضًا بالنسبة لحق الانتفاع للأراضي المقامة على مجرى النيل والموارد المائية الأغراض التجارية أو الصناعية داخل الكردون 10 جنيهات للمتر المسطح شهريًا، و5 جنيهات للمتر المسطح شهريًا خارج الكردون، أما بالنسبة للزراعة والتشجير لهذه المنافع فـ (جنيهان) للمتر سنويًا.
نحن هنا لا ننادي باستعمال الشدة والغلظة على المواطنين، ولكن في الوقت نفسه ينبغي أن ندرك أن هذا الملكيات هي حق للدولة قبل أن ينظر لها على أنها منفعة للمواطن؛ خاصة أن هذه التعديات انتشرت خلال فترة الانفلات الأمني الذي عاصر المدة ما بين ثورة يناير عام 2011 وحتى نهاية عام 2013، وبداية استقرار البلاد، علاوة على أن القانون أقر بمنع البناء على هذه المساحات؛ حيث تعتبر المنطقة المحيطة بفروع النيل «حرم النهر»، وهذا ما أكده الرئيس السيسي خلال أحد مؤتمرات الشباب بالإسكندرية، قائلًا: «لقد غابت الدولة والقانون خلال السنوات السابقة، مما أدى لحدوث تجاوزات كثيرة واعتداءات جسيمة على أملاك الدولة من الأراضي».
وأريد هنا أن نفرق في طريقة الحساب بين المواطن البسيط، الذي يزرع قطعة أرض تسمى "تخضيرة"؛ ليستفيد ويعيش ويفيد الدولة من إنتاج زراعي، وعائده سنوي غير متجدد يوميًا، وبين من يبني على هذه الأراضي ويستخدم هذه المساحات في الأنشطة الاستثمارية التي تدر عليه دخلًا يوميًا، حتى لا نضع الجميع في سلة واحدة.
والغريب في الأمر أن هناك مناطق سكنية كاملة أقيمت على فروع النيل بالمحافظات، وتم توصيل المرافق لها من كهرباء ومياه من الوحدات المحلية، رغم عدم حصولهم على ترخيص بناء؛ ومنهم رجال أعمال قاموا بإنشاء فيلات وقصور ومنازل على ضفة النيل مباشرة.
والحكومة ممثلة في وزارات الزراعة والري والبيئة، والتنمية المحلية وهيئة المساحة منوطة بالحصر النهائي والدقيق على أرض الواقع لهذه الأراضي؛ فضلاً عن الجزر النيلية البالغة 181 جزيرة بمختلف المحافظات؛ للحفاظ على المال العام للدولة، تمهيدًا للبدء في الحلول النهائية لمختلف حالات التعدي، وفقًا للقرارات والقوانين المعنية بذلك، علاوة على أن تقنين الأوضاع يبدأ بالتقدم بطلب للجهات المعنية والمختصة بالأرض المتعدى عليها، مع وجود لجنة عليا تدرس هذه الطلبات.
لذا يجب إجراء حصر دقيق لهذه الأراضي في ظل تشابك الملكيات عليها، أو عمل "أطلس" لهذه الأراضي طبقًا لطبيعة النشاط المقام عليها.
ومن ضمن المفارقات في هذه الأراضي عدم القدرة الدقيقة على تحديد قيمة حق الانتفاع المطلوب سداده للدولة؛ خاصة أن بعض المساحات مسجلة بأسماء أشخاص، وفي الواقع يستغلها أشخاص آخرون؛ والسبب يرجع لتضارب الاختصاصات بين وزارة الزراعة والري والجهات الأخرى، وهذا يمنح المعتدين على أراضي "طرح النهر" الفرصة للتهرب من سداد قيمة حق الانتفاع عن الأراضي التي يستغلونها؛ والسبب عدم وجود جهة واحدة مختصة بهذه الأراضي على مستوى الجمهورية.
وأظن أنه قد آن الأوان للعمل على الاستثمار الأمثل الذي يحقق أقصى استفادة اقتصادية ممكنة للدولة من هذه الأراضي والموارد المهدرة، ووضع هيئة مستقلة لإدارة هذه الموارد في ظل "رؤية مصر 2030" للتنمية المستدامة وإعادة استغلال المساحات غير المستغلة منها.
الأمر الثاني فيما يخص الأراضي التي تم شراؤها لنشاط زراعي التابعة لهيئة التعمير والتنمية الزراعية، التي تم تحويل نشاطها إلى استثماري بشتى أنواعه من مدن سكنية وأنشطة صناعية، فهناك حالات عدة تمت قبل عام 2010، وتم فيها تقنين وضع اليد لآلاف الأفدنة، والموافقة على تحويل نشاطها من زراعي إلى استثماري بدفع 2000 جنيه للفدان؛ وذلك بقرار لجنة فض المنازعات، وطريق مصر-إسكندرية الصحراوي شاهد على حالات عديدة استطاع أصحابها أن يكسبوا مليارات الجنيهات من الدولة بتلك الإجراءات، التي -من وجهة نظرهم- تمت بشكل قانوني؛ لذا نطالب بإعادة النظر في هذه الملفات حتى ولو تم تقنين وضع يدها بالمخالفة لاستعادة حق الدولة.