شيء من الوعي بقي لي أتعايش به مع الدنيا في حدود الحذر المرعب فقد تجرعت من آلامها الكثير ما يكفي أن يجعلني خارج الدنيا ألتصق بحائط أبيض أضرب رأسي فيه بهستيريا يائسة من كل شيء.
موضوعات مقترحة
كنت أحيا حياة طبيعية قبل أن تحترق أعصابي في آتون الخوف وظلمة تحتل عيني وقلبي منذ أن فقدت ابني الوحيد.
مثل كل الفتيات امتلأت نفسي بمباهج الدنيا وأحلامها وحلقت بعيدا بأجنحة الوهم بحثا عن فارس لم يكن يأتي في هذا الزمان.
كلما تعرفت علي شاب وأنا بعد في ربيع العقد الثاني من عمري سرعان ما أستشعر غرائزه الجائعة خلف أستار من الرومانسية ونسمات الحب المزيف بعبير كلمات خانق.
لم أركن لليأس في رحلتي عن الرجل الذي يستحق أن أذوب فيه حتي التوحد.
عشرات الرجال جاءوا يريدونني بعضهم طامع والبعض يريد السترة والبيت.. ولكني رفضت أن أكون دمية تحركها خيوط التقاليد والأعراف الموروثة ومبدأ البنت ملهاش غير بيتها وجوزها و ضل راجل ولا ضل حيطة.
آمنت برسالتي نحو قلبي الذي يرنو لحب حقيقي واصطدمت بأبي وأمي كثيرا فمن وجهة نظرهما ليس لدي منطق في رفض عرسان أقل ما يوصف الواحد منهم أنه لقطة.
ومضت بي الدنيا متلاطمة الأحداث بين رفض وتحد حتي التقيت به.. كان شابا مختلفا في كل شيء وكأنه أتي من بين سطور صفحات التاريخ.. اللقاء لم يكن مصادفة كما توهمت ولكنه كان بترتيب منه فقد رآني في النادي من قبل ولأني أغريت فضوله استطاع أن يعرف عني كل شيء وخطط لاقتحام حياتي ونجح في أن يقنعني به.. طرت فرحا أني وجدت أخيرا رجلي الذي أبحث عنه.. ها هو موجود في زمن لا يعترف إلا بالمادة أصل لكل شيء.
كانت مواصفات العريس اللقطة في نظر والدي تنطبق عليه فقد كان ثريا يعمل في وظيفة مرموقة لذا قبله علي الفور ولكنني لم أحبه إلا لأنه مثلي يؤمن بالرومانسية وبالحب أساسا لبناء أي تواصل بين اثنين أرادا أن يرتبطا.
عشنا معا حلما فاق كل خيالي وتجسد الحلم بيننا روحا جديدة تنبض بالحياة.. طفل هو النور يقشع بأوتاره الفضية كل ظلمات الدنيا وحلكتها فجرا وصبحا ونهارا جديدا.
كان لي ولأبيه الروح التي تجمعت بيننا ونعيش بها.. كلما كبر تكبر معه سعادتنا يتراقص قلبي معه وهو يتهادي مرحا في الصباح ذاهبا للمدرسة.. أستدفئ ببراءته كلما احتضنته عائدا من المدرسة يطمئن قلبي عليه.
لم أكن أدرك أن القدر يخفي لنا أمرا مروعا يقسم الظهر ويدفع بي إلي حافة الجنون فقد جاءني زوجي وحبيبي يخبرني بالسفر إلي الساحل الشمالي نقضي الصيف هناك.. سافرنا ثلاثتنا وفي الطريق وقعت الكارثة.. انحرفت ناحية سيارتنا شاحنة أطاحت بنا بعيدا.. تحشرجت صرخاتي في حلقي وأظلمت بعدها الدنيا في عيني لتتفتح علي قدر لم يتحمله عقلي.
مات ابني ومات معه عقلي الذي عجز أن يصدق نبأ موته وكان حتما مروري بمراحل معقدة من العلاج النفسي حتي يمكنني التعايش ببقايا وعي توقف الزمن معه عند رحيل ابني..
عشر سنوات مضت علي خروجي من المستشفي وانتهاء العلاج النفسي وكأن يوما منها لم يمض ولم يغادرني زمن الرحيل.
أعرف أن يقيني بالله وبقدره لابد أن يكون أكبر مما أنا فيه ولكنه قلبي الذي توقفت به الحياة منذ زمن حتي زوجي الذي نجا من الحادث بأعجوبة لم أعد أشعر به وهو صابر علي يحنو في معاملته لي بحب وسعة صدر كبيرين.
أنا لا أكتب لك الآن انتظارا لحل فأنا أعرف مصيري وأنتظره منذ سنوات ولكنه لم يأت ولكني استشعرت راحة نفسية كبيرة وأنا أكتب مأساتي لعلها تكون خطوة إيجابية تخفف عني وقع انتظار الرحيل المؤلم لتأتي خيوط النور بفجر جديد أري فيه ابني وأحتضنه.
س . م
أنا معك في أن القلب الذي يحترق حزنا من الصعب أن ينبض بالحياة ولكنه أمر ليس مستحيلا فنحن نعيش في دنيا جبلت علي مستحدثات القدر منها ما يؤلم ومنها ما يسعد وبين ذلك وذاك مخيرون في أشياء نحاسب عليها ومسيرون في أشياء أخري لابد لنا فيها غير أنها تقع لحكمة لا يعرفها غير المولي عز وجل.
و إن كنت قد رزقت الحب الحقيقي ونعمة الأمومة فتذكري أن من وهبك الحب ومتعة الأمومة هو المولي عز وجل الذي شاءت إرادته أن يسترد وديعته لحكمة لا ندركها.
و تذكري قول الله تعالي:{ ومن يؤمن بالله يهد قلبه}( التغابن:11).
لا تغلقي أبواب قلبك أمام الهداية يأسا وإحباطا وثقي أن الأمل في الله معقود دائما وما يدريك قد يعوضك الله بأمل جديد من الرجل الذي أحبك بصدق وانتظرك كل هذه السنوات ولعل هذا الأمل يكون فجرا جديدا يشرق في حياتكما بالسعادة التي غابت وتحيطكم أوتار النور والأمل مرة أخري.
و لنا فيمن سبقنا عبرة فقد روي أن سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه رأي أحد المبتلين في الدنيا فقال له: يا عدي, إنه من رضي بقضاء الله جري عليه فكان له أجر, ومن لم يرض بقضاء الله جري عليه فحبط عمله.
لذا أتمني أن يكون لديك الرضا بقضاء الله فتفوزين في الدنيا والآخرة أجرا وسعادة وادحضي فكرة انتظار الرحيل من وجدانك فليس هناك من يستعجل أجله وابنك الذي تنتظرين لقاءه هو من أطفال الجنة سينتظرك يوم الحشر وهو من سوف يسقيك من يده الماء ويصطحبك وأباه شفيعا إلي الجنة.
ارضي بما قسمه الله لك ولعل ما هو آت أفضل بإذن الله تعالي.