يتحاور أهل الصحافة والإعلام والثقافة عن مستقبل المطبوعات ومدى جدواها، فبعد أن غمرها الشهد في عصرها الذهبي، الآن تذرف الدموع في زمن الرقمنة، واختلفوا ما بين مؤيد لإطلاق رصاصة الرحمة عليها وبين معارض لهذا الإجراء القاسي الذي يكاد يكون حتميًا ولا فرار منه بمفهوم الاقتصاد وحساباته، ولكنه مستحيل لما تمثله من قيمة فائقة الجمال والإلهام، ليظل المأزق جاثمًا على الصدور، خاصة أن أصحاب الخبرات والتجارب لم يقدموا حلولاً بديلة، بل انشغلوا بانتقاد أي توجه لعلاج الوضع المتفاقم والديون المتراكمة والاستنزاف للموارد وانحسار التأثير الحقيقي على الناس خاصة بين أجيال الشباب، هذا هو ملخص التحدي الذي يواجه صناعة الصحف والمجلات والكتب، وذلك هو الحال المماثل في العالم كله وليس محلياً أو عربياً فقط.
فالمدافعون عن المهنة من أهلها، يتجاهلون عمدًا ما تواجهه عالميًا المؤسسات الصحفية ودور النشر من تحديات عصرية خطيرة ومحبطة، لكن التجاهل لن يفيد، فلابد من مواجهة التحديات بمسئولية، كيف يمكن تعويض الخسائر المالية مع الحفاظ على مبادئ الحيادية وقوة المحتوى الهادف والموضوعي. وكيف يمكن استعادة المواهب التي تهجر المهنة شيئاً فشيئاً إلى عالم الإعلانات والقنوات الفضائية وغيرها؟ والأهم كيف تستعيد المطبوعات سطوتها وتأثيرها في تكوين الوعي والرأي العام؟
هذه التحديات نابعة من واقع لا يمكن الانفصال عنه، ولن يفيد الانغماس في استعادة ما كان من أمجاد تحققت آنذاك في عصر الشهد الصحفي، زمن "الشنة والرنة"، وسيطرة النخبة، حين كانت عائدات المطبوعات تضمن حياة كريمة لها وللعاملين عليها، بل كانت تؤكلهم الشهد بملعقة من ذهب أو على الأقل تهاديهم بالذهب مع نهاية كل عام، ذلك ما كان واقعًا لعقود، أما الآن فقد ولّى زمن الشهد ولن يعود، ولو بذل السابقون جهدًا من أجل مستقبل المهنة واستدامة المطبوعات، لتأمين فرص الأجيال المقبلة لما آل الحال لما هو عليه الآن.
"ماتت صحافة الورق"، هكذا روجت تيارات من احترفوا لعبة الرقمنة، وأتقنوا دهاليزها، ووقفوا بقوة أمام الصوت الذي ينادى بالحفاظ على المطبوعات كمساحات تعبير مقدسة لا يجوز المساس بها، وقدموا حلولاً بديلة أقل تكلفة من الطباعة التي لم تتأثر فقط بأحوال المهنة وتغيراتها.
بل طالها الكثير بسبب التحولات الاقتصادية، والصراع على الممرات الملاحية، ونداءات التوازن البيئي التي أثرت على صناعة الورق عالميًا، فالأرقام فى كل من تلك التحديات مفزعة ومؤثرة بالسلب ودافعة في اتجاه الإغلاق أو التحول الرقمي الذي يُعد حلاً بديهياً وسهلاً يحقق معادلة الانتشار الأوسع ويحافظ على العاملين ووظائفهم لمن أراد أن يراعى ذلك، نعم فقط لمن أراد، فالأمر ليس إلزامياً بشكل كُلى، بل تنظمه قوانين العمل التي تسمح بإجراءات للتخفيف على أقل تقدير، وهى الخطوة التي اختارها الكثير من دور النشر عالمياً، بينما لم تتخل عنهم الكيانات التي وضعت الالتزام بالاعتبارات الأدبية والعملية والإنسانية كأولوية، واحتفظت بالوظائف أولاً وقبل أي شيء، وبذلك تظل الأزمة ضاغطة، ليبقى السؤال.. إلى متى؟!
وعلى الجانب الآخر، لن يستطيع مناصرو تجربة الرقمنة التى شهدنا رقعتها تتسع في كل مكان إنكار عدم استقرارها، وأنها لا تزال ينقصها الكثير، فرغم كل ما تقدمه التكنولوجيا الحديثة من إبهار، إلا أن المواقع الرقمية لم تتغلب بعد على مخاطر القرصنة، ولم تستطع حتى الآن أن تقدم تجربة ممتعة تضاهى تصفح مجلة أو جريدة أو كتاب، ولا يمكنها أن تنافس ذلك الإحساس الممتع بملمس الورق على اختلافه، وألوان الأحبار وتنسيق الخطوط والصفحات المرسومة، ولا ما يظهر عليها مع الزمن من لمسات كل من يمسها بأصابعه فيترك بصمة وأثراً ورائحة لا تُنسى.
تلك ليست رومانسية بائدة ولا هي "نوستالجيا" الحنين للماضي، بل هو صوت عاقل، يعلو هنا وهناك بقوة عبر السنوات الأخيرة، يدعو لنبذ الصحافة الاستهلاكية، ولاستمرار صناعة صحافة المتعة، ويُنادى بالحفاظ على المطبوعات لأنها تحمل ذكرى ومساحة للتوثيق الملموس وهو أمر مهم وسط سيل رقمي بلا أول ولا آخر، كما راج الهوس بجمع المطبوعات المميزة واقتنائها، فهناك اتفاق بأن وجودها في حياتنا متعة في حد ذاتها، نتفاعل معها وننفعل بها، ولم ينجح أحد في استبدال ذلك الإحساس إلى الآن.
السجال دائر بين الجانبين لما يزيد على العقد من الزمان، ولم ينتصر أحد، لكن الأكيد أن العامل الاقتصادي يتدخل أحيانًا كثيرة ليحسم المعركة على غير رضا، والأكيد أن مهنة صناعة المطبوعات تعانى بكل ما في الكلمة من معنى، خاصة الصحف والمجلات، التي تعانى العديد منها للاستمرار بالكاد، ومنها من يستدين لدفع التزامات العاملين، ومنها من لا يدفع من الأساس ويتعامل بالآجل! كل ذلك هو امتداد لما تعانيه مهنة الصحافة النبيلة من تراجع أمام ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي من بدائل سهلة وانتشار ثقافة المحتوى المدفوع.
ويظل التحدي، كيف يمكن استعادة أي مطبوعة عريقة يزيد عمرها على ربع قرن لرونقها بعد أن خبت زهوة النضارة وذوت انتعاشة الشباب ونضجت التجربة وزال عنها الألق حتى أصابتها أمراض الشيخوخة؟
الإجابة تحتاج إلى شجاعة، شجاعة المبادرة والمواجهة، وهو ما دفع المهتمين بأمر المطبوعات حقاً لدعوة أهل المهنة للمشاركة فى مرحلة جديدة تستدعى تحولاً يزن بين ماضٍ وحاضر ومستقبل، ولا يليق بالنخبة أن تكتفي بذرف دموع الأسى على ما فات، والوقوف على الهامش بدعاوى الأيدي النظيفة، وبدلاً من الاشتباك مع الواقع يكتفون بالتنظير والتغذي على أضواء التريند التى تخبو بأسرع من لمح البصر.
والسؤال الذي يفرض نفسه مع كل هجمة "تريندية" لفريق "لا لكل شيء وأي شيء"، أين كان كل هذا الفيض من الحماس مُخبّأ بينما تغلغل الخمول ليعم التراجع لسنوات؟ لِمَ دفن الكثيرون رؤوسهم في الرمال؟ وكيف تفسر الفورات الموسمية التى تكاد تطق بعروقهم بينما كانت ترقد منذ برهة كما البركة الراكدة؟ وبعد ثورتين، ألا يزال البعض واهماً بأن الحق والمعرفة والأصول والقوة والقدرة هي مزايا حصرية يحتكرها البعض دون غيرهم؟ من صدق ذلك فهو واهم، "وتلك الأيام نداولها بين الناس"، فما كل هذه الأشواك التي نَمَت بوادٍ كان يُنبت زهوراً؟!
القيم الراسخة لا تتبدل، والمواقف لابد كاشفة، وبالتأكيد أن من يعمل بذراعه ستصيبه أسهم من شبع من الشهد وجلس مرتاحاً لا يبالى، وإن كان لابد من العمل على حلول إنقاذ حقيقية، فالأولى أن يقوم بذلك التحول أهل المهنة أنفسهم، وأن يجتهدوا ويتحدوا ويعملوا معاً من أجل استمرار ما يؤمنون به، لا أن يختاروا منطقة آمنة للنضال عن بُعد، فقد فات أوان الصراعات والتشدق بالشعارات، فتلك لن تنفع في مقابل بيانات تشي عن خسائر بالملايين.
والأكيد أن محاولات حفظ ماء الوجه لن تمحو تراجع حال المطبوعات مهنياً واقتصادياً إلا ما ندر من تجارب استثنائية، ولن يحافظ الصوت العالي دون عمل على وظائف الناس وبيوتهم، فليس بالكلام عاشت المهنة ولا عاش من فيها، بل بالأفعال المخلصة التي تحترم النفس والعقل والضمير.
آن أوان العمل والغوص حتى النخاع لتقديم حلول واقعية تحافظ على تميز المطبوعات وتعيد هيكلتها وتطوير محتواها، لتنافس وتقاوم وتناطح الميديا الحديثة، فلم يعد الخبر بطلاً في أي مطبوعة، بل عليها أن تقدم ما يريده الناس ويبحثون عنه سواء معلومة أو تحليلاً أو رأياً، بشكل سهل وجذاب وباجتهاد وابتكار مستمر مبنى على الخبرة العملية والمعاصرة والمشاهدة للتجارب المحيطة والتعلم منها.
ولا شك ستواجَه كل تلك المساعي المخلصة بهجوم من لا يريد عملاً ولا غوصًا في أي شيء، بل يريد أن يستمر الوضع على ما هو عليه، فقد استقرت أذرع بعض «اللوبيات» لعقود ولن تتخلى عن تلابيب ما أمسكته بسهولة، هكذا حال الثقافة والصحافة والسينما والرياضة.. وكل مجال قائم على الموهبة وتحكمه القيم قبل القوانين، وويل لمن يفكر في أي خطوة خارج سياق القطيع، سيقابَل بهجوم ضارٍ، ولن يتردد اللوبي فى حماية الوضع القائم بأي ثمن، وعلى المتضرر أو الراغب في الإصلاح اللجوء لخبط دماغه في الحيط، وتضيع الفرصة وتتفشى الفوضى، ونصل لخط النهاية بالوفاة الإكلينيكية أو بورم خبيث، وحينها سيخسر الجميع، ولن تنفع الدموع، ولن يسمع نداء الاستغاثة أحد.
الرهان على جيل الشباب الذي تسلح بخبرة وإخلاص وعزيمة لا ولن تنكسر، فقط انشغل بالمستقبل ورسمه أمام عينيه، ورفض الالتفات للفزّاعات التى تُرفع أمامه، متسلحاً بالشغف والحلم والإرادة بأن يبنى بناء متيناً من أجل حاضره ولمستقبل القادمين من بعده مُتحملاً مسئولياته التاريخية، نعم، الرهان على المخلصين، المحاربين، الواعين بقضايا عصرهم، وقيمة جذورهم وتاريخهم ويحمونها بأرواحهم، لكنهم يرفضون نزعة التقديس التي تصيب المفاصل بالشلل، ولا يعرفون الاستسلام الذي ظلم أجيالاً تحت أقدام أجيال، فلا الزمن سيتوقف عن الهرولة، ولا التاريخ سيُعيد نفسه أبداً، ويحضرني قول حكيم للعظيم نجيب محفوظ "الحياة لا تعطي دروساً مجانية لأحد"، فمن خاف خاب، ومن لا يعمل لمستقبله لا يلوم إلا نفسه!