من أكثر القضايا التي شغلت الرأي العام في مصر في الماضي ولازالت، قضايا النصب والاحتيال، والتي تتعدد صورها وتتنوع أشكالها وسيناريو حدوثها.. ونستعرض هنا بعضا من أشكالها من أرشيف الصحافة المصرية قبل ثورة يوليو عام 1952م، والتى تناولها الدكتور محمد فتحي عبد العال في كتاب "الدر المنثور في مكنون جوهر العقول".
موضوعات مقترحة
صاحب البنك المزيف
وهل نغادر مبحثنا دون أن نعرج على شيخ المحتالين ؟!"حسين شريف" والذي بدأ حياته موظفًا فى "البنك الزراعى المصرى" بالشرقية مشهودًا عنه النزاهة والاستقامة وموضع ثقة مديريه، ولما انطلت عليهم هذه السمات المزيفة أوكلوا إليه مهمة نقل مبلغ حوالي 2000 جنيه أو يزيد وهو مبلغ كبير في هذا التوقيت (1906م) في مأمورية رسمية.. بلا شك المبلغ المالي كبير ويحقق له حلم السفر للخارج ..هذا ما لاح في ذهنه وزينه له الشيطان فسافر إلى فرنسا وانقطعت أخباره ..هنا تقدم البنك ببلاغ يتهمه بالاختلاس، وحكمت عليه محكمة ههيا الأهلية يوم 16 يناير سنة 1906م بالسجن ستة أشهر.
تزوج "حسين شريف " من فرنسية وأدعى لنفسه لقب "كونت دي ملوى" أي "أمير ملوي وهي إحدى مدن المنيا " كواحد من الوجهاء المصريين والعائلات الكبيرة..هذه الخطوات جعلته على مقربة من الأوساط المالية الفرنسية، وجعلته يحصل على أموال كثيرة من البيوت المالية الفرنسية، غير أنه سرعان ما امتنع عن السداد وفر إلى "روما "قبل أن تقبض عليه الشرطة الفرنسية مع كثرة البلاغات المقدمة ضده.
وفي "روما" سكن في أرقى الأحياء واستطاع بلباقته الانخراط داخل صفوة المجتمع الراقي هناك ..ثم قرر أن يحصل على الدكتوراة؛ تمهيدا للعودة إلى مصر والاستقرار بها، وبالفعل استطاع أن يحصل على الدكتوراة في الحقوق بالاحتيال والتزوير من إحدى جامعات روما، مع كونه غير حاصل على درجة الليسانس من الأساس، كما أحاط شهادته بسياج من الرسمية فجعلها ممهورة بخاتم القنصلية المصرية في روما عام 1925م.
المهم عاد إلى مصر مجددًا باسم "الدكتور حسين شريف" وقيد اسمه بجدول المحامين لدى المحاكم المختلطة، وقرر أن يمارس النصب على مستوى عالٍ، فاستغل فرصة الدعوات الرامية إلى التوسع في البنوك الوطنية لمواجهة النفوذ المالي الأجنبي في البلاد، وكان من نتاجها إنشاء "بنك مصر" في 13 أبريل عام 1920م بجهود الاقتصادي الكبير محمد طلعت حرب ..فسار في نفس الركب وأعلن عن إنشائه "البنك المصرى العام"، ولما كان بنك مصر قد تأسس برأس مال قدره 80 ألف جنيه، فقد أعلن الدكتور "حسين شريف" أن رأس مال بنكه الجديد مائة وخمسين ألف جنيه أي تقريبا الضعف، وأعلن نفسه رئيسا له وأحاطه بكل مظاهر البذخ والفخامة، والتي لا تجعل الناظر إليه يشك أن هذا بنك وأن صاحبه دكتور في القانون.
كان مبني البنك في شارع الشريفين ناحية البورصة يحمل اسم "البنك المصري العام" بحروف بارزة وغرفة المدير الأنيقة على أحد جدرانها شهادة الدكتوراة المُزيفة فيما تزينت باقي الجدران بخزانة عامرة من الكتب المتنوعة في مجالات القانون والتجارة وأعمال البنوك ولوائح المعاملات وعلى مكتبه دواةٌ فخمة ثمنها لا يقل عن عشرة جنيهات، إضافة إلى غرفة كبرى لاجتماعات مجلس الإدارة تتصدرها صورة زيتية بالحجم الطبيعي لمليك البلاد الملك فؤاد الأول استعارها من محل تصوير، علاوة على غرفة السكرتير، وغرفة رئيس مكتب الأعمال الفنية والهندسية المنوط به عمليات التشييد للمشروعات الصغرى والكبرى التي يقوم بها البنك، وبها صورة لرئيس الوزراء وقتئذ "إسماعيل باشا صدقي" مستعارة هي الأخرى من محل تصوير أسوة بمليكه، وكذلك خصص مكتبًا لعاملة التليفون، وغرفة لكاتبين على الآلة الكاتبة، ولم ينسى أن يعد السراديب لحفظ خزائن البنك وما بها من ودائع ونقود ستنهمر قريبا.
مطبوعات البنك تعدت قيمتها المئتين جنيه، وأضف لذلك ماكينات الطباعة والمكاتب الفخمة والأثاث الأنيق، والأدوات الكهربائية والساعات المعلقة التي لا تخطىء حساب الوقت والسجاجيد الجميلة .. هذه المظاهر التي أتقن صنعها الدكتور المزيف صاحب البنك المزعوم ولم يدفع من أثمانها سوى اليسير أطمعت الكثير من المصريين والأجانب بالتعامل مع البنك الوليد، وجعلت التجار والصُناع يحملون إليه ما شاء بالآجل وعلى وعد أن يصبحوا من المساهمين في رأس مال البنك.
وبدأ الدكتور "حسين شريف" يمارس نشاطه في النصب تحت ستار البنك بهمة ونشاط فبدأ يتقاضي أموالا كثيرة مقابل تعيين الراغبين في العمل بالبنك والكل في ذلك سواء مصريين أو أجانب سعاة أو صرافين فحصل من أحد الأجانب على مبلغ ثلاثمائة جنيه مقابل تعيينه صراف ثانٍ في البنك كما أقنع أحد الوجهاء ببناء عمارة له بمبلغ ثلاثين ألف جنيه كما أتاح فرص الاكتتاب وفتح حسابات للعملاء بالبنك المزعوم على مصرعيها ..
مع جهود أحد ضباط المباحث ويدعى الملازم أول "الحريرى أفندي" وقد ارتاب في شخصية الدكتور المحتال مع كثرة البلاغات حوله كما جاء الحكم الصادر في 17 يونيو سنة 1929م من الجمعية العمومية لمحكمة استئناف الإسكندرية المختلطة المشكلة بهيئة مجلس تأديب، والقاضي بمحو اسم "حسين شريف" المحامي تحت التمرين من جدول المحامين والاستعلام الوارد من إدارة الأمن العام بباريس بشكاوى ضده في قضايا نصب وخيانة أمانة، كل هذا جاء مُعظمًا من هذه الشكوك وواضعًا الرجل تحت المراقبة الدقيقة من المباحث.
بدأت تتجمع خيوط الحقيقة بشكل جلي وسقط في قبضة البوليس وبتفتيش خزينة مكتبه وجد مبلغ مائة وأربعين جنيها فقط، وبتفتيش قصره البالغ الفخامة مع زوجته الفرنسية في 18 شارع فؤاد الأول والمٌحاط بالسيارات الفارهة، فضلا عن مداهمة البنك وتفتيش خزائنه الخاوية على عروشها كافة لم يعثر على أي مال، وأدعى أن رأس ماله الحالي المدفوع ستة آلاف جنيه فقط هي نتاج كفاءته الشخصية التي تساوي هذا المبلغ وتفوقه، والباقي في شكل أسهم مطروحة بالسوق ليتضح في النهاية أنه حتى الستة آلاف جنيه لا وجود لها، وهذا بحسب ما جاء عنه بمجلة "المصور" في 23 يونيو 1932م .
د.محمد فتحي عبد العال
كاتب وباحث وروائي مصري
البنكير المحتال حسين شريف من أرشيف مجلة المصور عام 1932م