سحاب أحمر فوق أمريكا، عنوان كتاب قديم للباحث الكندى وليم جاى كار، صاحب كتاب «أحجار على رقعة الشطرنج» يصلح عنوانًا لما يجري في أمريكا اليوم.
أمريكا الراهنة تبدو كأنها في حرب أهلية ناعمة، تدور خلف الكواليس، وراء أبواب شديدة الإغلاق، وفي غرف شبه سرية، لا تظهر الحرب على المسارح العلنية، لكنها تتجلى في وسائل الإعلام، ومنصات التواصل الاجتماعي، وقاعات الكونجرس، والبيت الأبيض، ومقرات الأحزاب، وأروقة الجامعات.
يوم الأحد، الحادي والعشرون من يوليو 2024، ظهرت أولى الشرارات مع إعلان الرئيس جو بايدن الانسحاب من التنافس على رئاسة البلاد على منصة x تويتر، وتسجيل وصية واجبة بنائبته كامالا هاريس لتستكمل المسيرة، عن الحزب الديمقراطي.
غيبة بايدن المفاجئة عن الأنظار أشاعت نظرية المؤامرة، راح البعض يطالب كامالا هاريس، المرشحة المعتمدة، بإثبات أن الرجل مازال على قيد الحياة، وبعضهم الآخر راح يطالبها بكشف أسرار العام الأخير، وهل كان الرجل يتمتع بلياقة صحية أم لا، آخرون اشتطوا وتساءلوا عن مصير الأسلحة النووية، بحكم أن الرئيس الأمريكي هو حامل حقيبة يوم القيامة، ومالك أرقامها السرية!
أطراف هذه الحرب الأهلية الناعمة من النافذين على المسرح الأمريكي، وثمة مؤسسات لا تريد أن يأتي ترامب، وتنتشر معه الأفكار المجنونة، حول ارتباط أمريكا بحلف الناتو، أو الابتعاد عن العالم القديم، أو الخروج من مسارح العمليات الخارجية.
ثمة مخاوف أخرى من ظهور الترامبية، ومن تمكنها القاتل من السياسة الأمريكية، وتدور المخاوف حول تغييب مؤسسات الفكر المرتبطة بالحزب الديمقراطي، وخسارته لانتخابات الكونجرس المقبلة، وهذا يعنى أن أمريكا التي كانت بمثابة ”الجبلاوي” للعالم يمكن أن تتحول إلى عزلة قاتلة.
على مدى ثمانية عقود، ومنذ الحرب العالمية الثانية، بدت أمريكا كأنها “الجبلاوي” ساكن القصر المهيب الذى يتطلع إليه سكان الحارة العالمية، ففيها الحرب والسلام، وفيها الأعاجيب والحيل، اعتادها العالم وتعودت عليه، الآن تتغير وتشيخ، ترفض أن تتحمل أكثر من طاقتها.
بذرة العزلة موجودة وكامنة منذ الآباء المؤسسين، تظهر لحظات وتختفى أخرى، كلما تورطت في حرب خارجية تعلو أصوات العزلة، وكلما ضربها كساد عظيم، تفكر في الابتعاد، ثم تنسى سريعًا، وتعود إلى مسار الاندفاع إلى العالم القديم، كأنها “سيزيف” حامل الصخرة، أو كأنها مريضة بهذا المرض المزمن.
الأمم تشيخ كالأفراد، وقد شاخت سريعًا، ونفدت الأفكار، وجدت نفسها تدور في حلقة مفرغة، في البداية اندفعت إلى الاندماج في العالم بقوة ناعمة، شاءت ألا تكرر أخطاء القوى التى اندفعت قبلها بخشونة عسكرية، وفى نهاية المطاف وجدت نفسها في نفس الطريق، تورطت في حروب مجانية، بمزاعم وادعاءات كاذبة، وكثيرًا ما كانت تندم وتعترف، وظلت آفتها النسيان.
الحقيقة عارية الآن، ثمة صراع يدور في لحظة فاصلة، يتغلب فيه أصحاب نزعة العزلة، وصعود تيار”أمريكا أولا”، وهو تيار قد يمسك بزمام البلد - القارة، ويتخلى عن العالم القديم بأمراضه المزمنة.
هل عرفت أمريكا طريقها أخيرًا؟
نعم.
وصلت الرسالة إلى أوروبا، الحليف التاريخي، وبدأت في تكوين خلية أزمة، تضع سيناريو ما بعد غياب”الجبلاوي” الأمريكي، ولم لا؟ فهى القارة التى صاغت القرون الخمسة الماضية، وصاحبة العصور الصناعية المتتالية، ولا بد أن تفكر قبل أن يغرقها الطوفان، وفى أوكرانيا أيضًا تغير الخطاب، وبدأوا يبحثون عن سلام في المسألة الروسية.
ما بين رصاصة ترامب، وانسحاب بايدن، أيام قليلة، كانت كافية ليتغير العالم مرة واحدة وإلى الأبد، فلا تنتظروا ظهور “الجبلاوي” الأمريكي، فليس ثمة جبلاوي بعد الآن في البيت الأبيض المهيب.