يعد الملف الاقتصادي ورقة حاسمة، ومكونًا مهمًا على أجندة انتخابات الرئاسة الأمريكية التي تُجرى في نوفمبر، نظرًا لما يمثله هذا القطاع من تأثير في حياة المواطن العادي؛ قضايا مثل أسعار السلع والخدمات والمنازل والتوظيف، غالبًا ما تحظى باهتمام المستهلكين ودافعي الضرائب في الولايات المتحدة.
وقد يحسم "الاقتصاد" فوز مرشح دون آخر، ففي عام 1992 رفع الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتون (1993-2001) شعار "إنه الاقتصاد يا غبي" أثناء حملته الانتخابية، وتغلب على منافسه الرئيس الأسبق جورج بوش الأب الذي فشل في تحقيق ولاية ثانية، رغم الإنجازات التي حققها على صعيد السياسة الخارجية، لكنه أهمل الشئون الاقتصادية.
كما هو الحال في الدورات السابقة، تطفو القضايا الاقتصادية على السطح بين المرشح الجمهوري والرئيس السابق دونالد ترامب، ونائبة الرئيس كامالا هاريس التي تسعى لتأييد الحزب الديمقراطي لخوض الانتخابات القادمة.
قرار الرئيس جو بايدن بالانسحاب من الحملة الرئاسية لعام 2024، وتأييد نائبته هاريس يقلب المنافسة ويغير سياستها وديناميكياتها الإستراتيجية؛ فهو يضع ديمقراطيًا أصغر سنًا في مواجهة جمهوري أكبر سنًا، ومدعي عام سابق من كاليفورنيا في مواجهة ملياردير من نيويورك.
من هنا يبرز التباين الواضح بين المرشحة المحتملة هاريس والرئيس ترامب المعاد انتخابه في مجال السياسات الاقتصادية الرئيسية.
من الواضح أن هناك فجوة هائلة في كيفية تعامل كل زعيم مع هذه المسائل الملحة، وما قد يفعله لتشكيل مستقبل أكبر اقتصاد في العالم خلال فترة رئاسته التي تمتد لأربع سنوات.
ضرائب الشركات
بينما تفضل "وول ستريت" ومجتمع المال والأعمال ترامب رئيسًا لأمريكا، تعهدت هاريس أثناء خطابها بولاية ويسكونسن بإعادة بناء الطبقة الوسطى، معتبرة أنها مستقبل أمريكا، بالإضافة إلى دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تعتبر عصب الاقتصاد الأمريكي.
في مجال الضرائب على الشركات، أشار ترامب إلى أنه يريد تمديد تخفيضات الضرائب التي أقرها وقت أن كان رئيسًا في عام 2017 عندما تنتهي العام المقبل، وخفض ضرائب الدخل والشركات بشكل أكبر، ورغم أن قدرًا كبيرًا من تخفيضاته الضريبية السابقة ذهب إلى أفراد أثرياء وكبريات الشركات، فمن المرجح أن تستمر خططه لخفض الضرائب على الشركات إلى 15%.
ومن المتوقع أن تواصل هاريس سياسة بايدن في تجنب زيادة ضريبة الدخل على أولئك الذين يقل دخلهم عن 400 ألف دولار، ولكن مثل الرئيس بايدن، تريد زيادة الضرائب على الأثرياء؛ على أساس أنهم بحاجة إلى دفع حصتهم العادلة، ومن شأن هذه الزيادات الضريبية أن تساعد على دفع تكاليف الخدمات اللازمة للأشخاص الأقل دخلًا.
مكافحة الاحتكار
من المرجح أن تواصل هاريس تطبيق سياسة بايدن الصارمة لمكافحة الاحتكار، وتحسين الفرص الاقتصادية لجميع الأمريكيين، ولقد لاحقت الإدارة الأمريكية الشركات الكبيرة، التي تشعر بأنها أساءت استخدام مواقعها القوية في السوق وانخرطت في سلوكيات استغلالية أضرت بالمستهلكين، وجعلت من الصعب على الناس شراء السلع الأساسية.
ربما لن يكون ترامب قويًا في إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار، كما كان بايدن وتواصل هاريس. قد يواصل قضايا إنفاذ قوانين مكافحة الاحتكار الحالية، لكنه سيعطي الضوء الأخضر لعمليات الاندماج والاستحواذ. خلفيته التجارية تجعله أكثر تعاطفًا مع مجتمع الأعمال بشكل عام، ومن غير المرجح أن يعين منفذين أقوياء في وزارة العدل أو لجنة التجارة الفيدرالية أو لجنة الاتصالات الفيدرالية، كانت هذه هي الحال في ولايته الأولى كرئيس، ومن المرجح أن تستمر إذا فاز بولاية أخرى.
العملات المشفرة
يختلف المرشحان، ترامب وهاريس، بشكل كبير فيما يتعلق بتنظيم العملات المشفرة. لم تخف سوق العملات المشفرة فرحتها عندما قرر بايدن عدم خوض الانتخابات، مع ازدياد فرص ترامب بالفوز.
على الرغم من أن ترامب كان يؤيد سابقًا التنظيم الصارم للعملات المشفرة، إلا أنه خفف مؤخرًا من موقفه، ودعا إلى نهج أكثر اعتدالًا. وجهة نظره أن العملات المشفرة هي ابتكار يتطلب بعض الوقت حتى يتم العمل عليه ولا يتطلب إشرافًا صارمًا في هذه المرحلة.
على عكس منافسته، تتبنى هاريس موقفًا أكثر صرامة بشأن تنظيم العملات المشفرة. فهي تعتقد أن المستهلكين يحتاجون إلى حماية كافية، ويجب أن يكون هناك قدر أكبر من الشفافية في سوق العملات المشفرة. ودعت إلى فرض هيئة الأوراق المالية والبورصة الأمريكية عقوبات أكثر صرامة على شركات العملات المشفرة.
صناعة النفط والمناخ
عندما شغلت هاريس منصب المدعي العام لولاية كاليفورنيا، أقامت دعاوى قضائية ضد شركات الوقود الأحفوري، وأحالت للمحاكمة شركة خطوط أنابيب بسبب تسرب النفط، وأجرت تحقيقات مع "إكسون موبيل" بتهمة تضليل الرأي العام بشأن تغير المناخ.
وبالتالي يثير سجلها اهتمامًا عميقًا لدى صناعة الطاقة الأمريكية والنشطاء في مجال المناخ على حدٍ سواء.
بشكل عام، يُنظر إلى هاريس، حال فوزها برئاسة الولايات المتحدة، على أن موقفها أشد صرامة من بايدن نفسه في مواجهة شركات النفط الأمريكية بسبب التلوث وتحقيق العدالة البيئية.
على النقيض من ذلك، يشدد الرئيس السابق ترامب على أهمية تعزيز التنقيب عن النفط والغاز في الولايات المتحدة لخفض أسعار الطاقة، ويرى ترامب أن "الولايات المتحدة تمتلك وفرة من الذهب السائل" النفط.
وفي هذا المجال لا ننسى التصريح الشهير لترامب عندما كان رئيسًا لأمريكا بأنه "لا يؤمن بالتقارير التي تتضمن المخاطر المناخية الخطيرة التي تواجه الولايات المتحدة؛ حيث يرى أن الاحتباس الحراري خدعة مؤكدًا مساعيه لتحقيق نمو اقتصادي لا يأخذ في الاعتبار سياسات المناخ التي تؤدي إلى الإغلاق".
السياسة النقدية
كبح جماح التضخم هو أحد الأهداف الرئيسية للفيدرالي الأمريكي (البنك المركزي)، وهو يستخدم ما لديه من أدوات وسياسات نقدية لخفض التضخم، الذي شهد في عهد بايدن، أعلى مستوياته خلال 40 عامًا.
وبنك الاحتياطي الفيدرالي مستقل في سياسته، ولا يتأثر بمن يأتي إلى البيت الأبيض، ومن المتوقع أن يتجه إلى خفض الفائدة، التي بلغت أعلى مستوياتها في 4 عقود، في سبتمبر تباعًا مع البنوك المركزية الأخرى في أوروبا وكندا، إذ إن خفض الفائدة يحمي المصداقية والنمو الاقتصادي.
وفيما يتعلق بموقف المرشحين من السياسة النقدية، أعلن ترامب صراحة نيته خفض أسعار الفائدة، واستكمال رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول فترته الحالية.
أما هاريس فكانت مدافعة متحمسة عن الأجندة الاقتصادية للبيت الأبيض خلال إدارة بايدن، حيث روجت لفوائد التشريعات مثل خطة الإنقاذ الأمريكية لعام 2021 وقانون خفض التضخم لعام 2022.
في الأسابيع الأخيرة، زعمت هاريس أن زيادات الأجور كانت تتجاوز التضخم، وأن وظائف التصنيع آخذة في النمو، وأن الديمقراطيين كانوا يكافحون من أجل التنازل عن ديون قروض الطلاب.
التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
خلال إدارته السابقة، قلب ترامب جميع سياسات الرئيس الأسبق باراك أوباما من خصوصية البيانات إلى ربط المدارس، بما في ذلك تلك التي تربط المدارس الأمريكية بالإنترنت. ومع ذلك، تقدم ترامب بسياسات من أجل بنية تحتية لاسلكية أكثر قوة لشبكة الجيل الخامس، وخاصة في المجتمعات الريفية.
وفي مجال الذكاء الاصطناعي، أصدر بايدن أمرًا تنفيذيًا، دعا فيه كل وكالة فيدرالية إلى فحص تأثيرات الذكاء الاصطناعي في قطاعها المحدد والسبل لمعالجة مشاكله.
ومن المرجح أن تحتفظ هاريس بالسياسة نفسها، غير أن ترامب يبدو أنه يدعم لمسة تنظيمية أخف على الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة الأخرى. في ولايته الأولى، لم يتم تداول سوى القليل جدًا من الأخبار حول تنظيم الذكاء الاصطناعي.
على خطى بايدن
ومع اقتراب موعد الانتخابات بعد أكثر من ثلاثة أشهر، لا يزال من المبكر للغاية التنبؤ بنتائج كل مرشح، ولكن ما هو متوقع من هاريس، على افتراض حصولها على ترشيح الحزب الديمقراطي، هو أنها ستواصل العديد من السياسات الاقتصادية التي انتهجتها إدارة بايدن، وستظل على هذا المسار كرئيسة إذا فازت.