تطرقت في المقال السابق لجزء من حياة فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، واليوم نستكمل جهود هذا العالم الجليل، خاصة أن للعلماء في شريعة الإسلام مكانة سامية منيعة ومنزلة عالية رفيعة، فهم أول من يدعون الناس إلى الهدى.. يُحيون بكتاب الله من أوشكت قلوبهم على الممات، ويوقظون غافلي الأمة من عميق السُبات فكم من شارد عن طريق الصواب قد حَمَوه، وكم من ضالٍ عن درب الثواب قد هَدَوْه.. فما أحسن أثرهم على الناس وما أعظم أجرهم عند رب الناس، هم حراس الدين من الابتداع والتزييف وحُماته من التخريف والتشويه والتحريف.
رفع الله ذكرهم في الأولين وجعلهم أهل خشيته من العالمين.. تستغفر لهم الحيتان في البحار وتدعو لهم الملائكة الأطهار الأبرار وذكرهم لا ينقطع أبدًا في الدنيا إلى يوم القرار. أوجب رسول الله "صلى الله عليه وسلم" على المسلمين توقيرهم وألزمهم احترامهم وإكرامهم وتقديرهم فقال: (لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)، ويقول أبو زرعة الرازي: "كنت عند أحمد بن حنبل، فذُكِر إبراهيم بن طهمان، وكان متكئاً من علة، فجلس، وقال: لا ينبغي أن يُذكر الصالحون فيُتكأ".
فالشيخ حفظه الله إذا رأيته تخاله قد جاءنا من الرعيل الأول الذين تقربوا إلى الله في خلواتهم وصلواتهم فطابت قلوبهم واستنارت وجوههم وعذبت ألسنتهم وارتقت همتهم وصفت قريحتهم، والإمام الزاهد الدكتور الطيب قال لي يومًا في حوار أجريته معه إنني لا أزال مهمومًا بالطلاب الوافدين مذ كنت أستاذًا أدرس لهم بسبب عدم قدرتهم على الفهم الكافي لضعف بعضهم في اللغة العربية لذا أنشأ مركزًا لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها لتأهيلهم قبل الالتحاق بالجامعة.
والإمام الطيب هو الإمام الثامن والأربعون للجامع الأزهر، وهو ينتمي لأسرة صوفية عريقة ونَسَبٍ هاشِميٍّ عَلَوِيٍّ شريف، وهو أستاذ في العقيدة الإسلامية وصاحب فكرٍ إصلاحي معتدل، لا يميل إلى التشدد في الدين ولا يقبل التفريط فيه، بل يفضل الوسطية التي يراها أفضل ما يميز الدين الإسلامي، مجسدًا في ذلك المنهج الأزهري الوسطي الأصيل بكل ما يحمله من إعمال للعقل وقبولٍ للآخر وانفتاح على الحضارات والثقافات المختلفة ولهذا كله لقب (بإمام السلام) نظرًا لإعادته العلاقات بين الأزهر والفاتيكان، بالإضافة إلى توقيعه وثيقة (الأخوة الإنسانية) بحضور بابا الفاتيكان.
والدكتور الطيب أعاد للأزهر مكانته العلمية والدولية، وعمل على إحداث تطور هائل في المناهج، وعادت كعبة العلم الأزهر الشريف قبلة الجميع من الراغبين في تعلم العلم الصحيح وانتهاج المنهج الوسطي المعتدل للشرع الحنيف.
ولقد عمل الإمام الأكبر على استحداث مؤسسات جديدة، وساهم في إنشائها ضمن عملية تطوير الأزهر، منها المنظمة العالمية لخريجي الأزهر، وذلك لاستعادة مكانة الأزهر العالمية، وطرح مبادرة تأسيس رابطة عالمية ينطوي تحت مظلتها جميع خريجي الأزهر الشريف في مختلف بقاع العالم، عندما كان رئيسًا لجامعة الأزهر آنذاك، وتم إنشاؤها عام 2007 بهدف تفعيل القوة الناعمة للأزهر الشريف المتمثلة في خريجيه المنتشرين حول العالم، وفي الجانب المحوري لمزج قطبي الوطن (مُسلميه ومسيحيِّيه) تحت مظلة واحدة وبيت واحد أسس ما يسمى (بيت العائلة المصرية)؛ وذلك لتوطيد وتثبيت قوةِ العَلاقةِ التاريخيةِ بين جناحيِ الوطنِ..
وفي الجانب الاجتماعي أنشأ الإمام الأكبر (بيت الزكاة والصدقات المصري)؛ فهو مهموم دائمًا بهذه الطبقة من الفقراء وذوي الحاجات من أبناء الشعب ولا يتغافل أبدًا عن آلامهم وطموحهم وآمالهم، وما زلت أحفظ مقولته المشهورة (أنا رجل بسيط أحب الفقراء وأعيش دائمًا بينهم).
وفي جانب تعزيز السلم والأمن العالمي قاد الإمام الأكبر مبادرةً لتأسيس مجلس لحكماء المسلمين يكون بمثابةِ هيئةٍ دوليةٍ مستقلةٍ، تهدف إلى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة، وترسيخ قيم الحوار والتسامح واحترام الآخر، وأسس (مركز الأزهر العالمي للرصد والفتوي الإلكترونية والترجمة)؛ لمحاربة الأفكار الهدامة والمتطرفة التي تُشَوه صورة الإسلام، ومواجهة الفتاوى الشاذة وتفنيدها، وضبط فوضى الفتاوى، ووجه شعبة العلوم الإسلامية لاصطفاء نخبة من طلاب الأزهر الأوائل المتميزين الذين يفهمون مسائل العلوم فهمًا صحيحًا، للالتحاق بتلك الشعبة، كما عمل على إنشاء لجنة المصالحات العليا إيمانًا منه لتحقيق وحدة الصف ولم الشمل، ونبذ الفرقة والخلاف ليس فقط بين أبناء المجتمع المصري، وإنما في مختلف المجتمعات التي تعاني من انقسامات داخلية وحروب أهلية، وكذلك أسس مركز الأزهر لتعليم اللغات الأجنبية للانفتاح على الحضارات والثقافات المختلفة والتقريب بين الشرق والغرب، كما أنشأ (مركز الأزهر العالمي للحوار)؛ لإيمانه بأهمية الحوار بين الأديان والحضارات المختلفة، وتفعيل الحوار الحضاري بين الأزهر والمؤسسات الدينية والفكرية والعلمية في العالم.
كما قام بإنشاء "أكاديمية الأزهر الشريف لتأهيل وتدريب الأئمة والدعاة والوعاظ وباحثي وأمناء الفتوى" وذلك في ظل توجيهات الرئيس عبدالفتاح السيسي بضرورة تجديد الفكر الديني والخطاب الدعوي، وتزويد العاملين في المجال الدعوي والإفتائي بالمهارات والأدوات التي تساعدهم على مواجهة الأفكار المتطرفة، وترسيخ قيم التعايش والحوار وقبول الآخر علاوة على وجود (اللجنة العليا للأخوة الإنسانية)، وتسعى اللجنة إلى تحقيق أهداف «وثيقة الأخوة الإنسانية»، إضافة إلى إحياء (هيئة كبار العلماء بالأزهر)؛ باعتبارها أعلى مرجعية دينية تابعة للأزهر الشريف، بعد أن تم حلها عام 1961م، وهو ما تكلل بالنجاح في عام 2012.
كما قام الطيب حفظه الله بالعمل على ترميم الجامع الأزهر، وإحياء الأروقة الأزهرية؛ حيث تشهد أروقة جامعة الأزهر وجود 40 ألف طالب وافد من حوالي 106 دول على مستوى العالم علاوة على تطوير قطاع مدن البعوث الإسلامية أحد القطاعات التابعة للأزهر الشريف، وهي عبارة عن مجمعات سكنية لإقامة وإعاشة الطلاب الوافدين للدراسة بالأزهر مع تزايد عدد الطلاب الوافدين، فقد ضاقت بهم أروقة الأزهر، الأمر الذي جعل إقامة مدينة للبعوث الإسلامية تخصص لإقامة وإعاشة الطلاب الوافدين للدراسة بالأزهر أمرًا ضروريًا، لذلك سارعت الدولة بإقامة مدينة البعوث الإسلامية بالقاهرة وأخرى بالإسكندرية، وأخرى بصعيد مصر؛ لتوفير المسكن والمأكل للطلاب الوافدين المقيمين بها، وتوفير الرعاية المعيشية والاجتماعية والثقافية والرياضية والطبية لهم، إضافة إلى إقامة مدينة للبعوث جديدة بالقاهرة الجديدة في ظل متابعة دورية من الرئيس السيسي والدكتور مصطفى مدبولي رئيس الوزراء، وهذا المشروع يستهدف إنشاء مدينة أزهرية متكاملة وسكنية، لخدمة طلاب الأزهر المبعوثين من الخارج لمصر في حوالي 172 فدانًا مساحة المدينة؛ حيث تستقبل مدينة البعوث ما يزيد على 50 ألفًا من المبعوثين، من مختلف الدول مع توفير المنح الدراسية للطلاب الوافدين، تغطي مصاريف الدراسة والمعيشة في مصر.
أما عن دعمه ومناصرته للقضية الفلسطينية، ودعمه المستمر لها ونداءاته وصرخاته اليومية في سمع وآذان وضمير المجتمع العالمي في العمل على صد عدوان المحتل الإسرائيلي الغاصب فحدث ولا حرج.. وكذلك إرسال المساعدات لأهل غزة ولكل دول العالم الإسلامي، وفضيلته يستقبل على الرحب والسعة أبناء وطلاب غزة بمعاهدها الأزهرية ويدعوهم للحضور له في أي وقت فبابه مفتوح كعادته دائمًا.
ومن مواقفه الإنسانية الرائعة التي كنت شاهدًا عليها حين توفي طالبان بكلية الطب والهندسة جامعة الأزهر في حادثة قطار بمحافظة الغربية بقريتي ميت حواي مركز السنطة وقرية إخناواي مركز طنطا وجه الطيب الأستاذ الدكتور محمد المحرصاوي رئيس جامعة الأزهر السابق لتقديم واجب العزاء والمواساة لأهل هذين الطالبين مع تقديم المساعدات اللازمة وإرسال قافلتين طبيتين من جامعة الأزهر لهاتين القريتين وتحملان أسماء الطالبين مع استقبال فضيلته لذويهم بمشيخة الأزهر، وإرسالهم للحج على نفقة الأزهر.
وأيضًا لا تُنسى أبدًا مكالمته الشخصية للمواطنة مريم وزوجها لتقديمه واجب العزاء لأسرة المتوفين في حادث المحلة الكبرى، والتي راح ضحيتها ١٠ من أسرة واحدة في حادث اصطدام ميكروباص بشاحنة، واتصالاته بأوائل الجمهورية لتهنئتهم وأولياء أمورهم ودعمهم وتذليل الصعاب لهم والاحتفاء بهم فإمامنا الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر هو صاحب القلب الكبير النقي الصافي الذي يسع كل أبنائه ويفيض حبًا ورحمة بلا حدود.
أما فيما يخص مناصرة حقوق المرأة، فلقد أولى الطيب هذا الملف اهتمامًا كبيرًا تطلعًا منه لأهمية قضايا المرأة، واستنكار كافة أشكال التهميش والتمييز والعنف والاستغلال التي تتعرض لها المرأة حول العالم، ومن الطرائف في هذا الأمر أنه عندما كان رئيسًا لجامعة الأزهر قال لي: إنه يحب أن يطلق عليه لقب (أبوالبنات)؛ لاعتباره أن كل طالبات الأزهر بناته، إضافة إلى ابنته الوحيدة زينب وابنه المهندس محمود.
ورغم تقلد الطيب العديد من المناصب فقد ظل شيخ الأزهر أكبر قامة دينية إسلامية على وجه الأرض، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب يقيم في شقته بالقاهرة بمفرده تاركًا الأسرة في مسقط رأسه بالقرية بالقرنة بمحافظة الأقصر، ويواظب على زيارتها حتى بعد بناء استراحة له بمقر مشيخة الأزهر، كما يتابع الشيخ بنفسه، وبمعاونة شقيقه الأكبر الشيخ محمد الطيب شيخ الطريقة الصوفية الخلوتية وبواسطة أبناء العائلة، ساحة الطيب بالأقصر؛ وهي ساحة مملوكة للعائلة يجتمع فيها شيخ الأزهر بأهل قريته وأهالي القرى المجاورة وأي زائر يطلب المساعدة، وتقدم فيها واجبات الضيافة الكاملة، ويمارس فيها الشيخ دوره كمحكم عرفي لحل الخلافات والنزاعات بين العائلات، كما يستقبل فيها ضيوفه من المصريين والعرب والأجانب، ويزوره فيها أحيانًا بعض السياح الأجانب المتوافدين على الأقصر.
ولسماحته وبساطته وبشاشة وجهه وتواضعه الجم وتشخيصه للإسلام في صورته المثلى التي يستحقها في عيون الآخرين.. كل ذلك وغيره كان سببًا كبيرًا في اعتناق الكثير من الغربيين الإسلام، وتم ذلك على يده وتحت رعايته، ومن بين هؤلاء الذين دخلوا في دين الله أفراد الأسرة التي كان يقيم لديهم خلال دراسته في باريس.
ولقد تولي الطيب مسئولية مشيخة الأزهر في وقت عصيب مرت به الأمة الإسلامية والمنطقة العربية، وكأنه جاء في هذا التوقيت ليعيد للأزهر مجده، خاصة أن لديه إيمانًا كبيرًا برسالة الأزهر، ويعمل على نشر هذه الرسالة في كافة ربوع الأرض رافضًا كل محاولات السيطرة على الأزهر الشريف من خلال التيارات الإسلامية المتشددة والجماعات الإرهابية المتطرفة خاصة التي بدأت خفافيشها تظهر بعد ثورة 2011.
لقد مر الأزهر الشريف أول جامع أنشئ في القاهرة، عبر رحلته الطويلة بعشرات المحن تجاوزها لأنه الجامع الأكبر الذي يحمل لواء هذا الدين الإسلامي، فلقد أغلقت أبوابه، وضربت جدرانه بالقنابل، وسقط في رحابه وعند أبوابه وأمامه مئات الشهداء، ودخلته خيل الفرنسيين وحولوه إلى إسطبل فترة، وتآمر عليه البريطانيون، فقاوم كل المحتلين وهاجمه العلمانيون، ولكن بفضل علمائه وشيوخه الأجلاء تجاوز ذلك.
وإنه لتتردد على مسامعي دائمًا وتستوقفني مقولة للإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب، خلال برنامجه المبارك في رمضان عام ٢٠٢١م.. (إن الأزهر كان -وما زال وسيظل- "قلعة الاجتهاد والتجديد" على مدى تاريخ المسلمين، بعد عصر الأئمة الأربعة وأئمة المذاهب الفقهية المعتبرة، وكان تراث المسلمين قد أشرف على الهلاك بعدما ضاع على أيدي الغزاة بالأندلس في الغرب، وأحرقه التتار في الشرق، ولولا الأزهر لما كان هنالك ما يسمى الآن بالتراث العربي الإسلامي).
و في ختام مقالي أقول: كما هي العادة لقد انشغل الناس بالبهرجة وانبهروا بزخرف الدنيا الذي صاحب الإمام مؤخرًا خلال زيارته لعدد من الدول بجنوب شرق آسيا مرورًا بالإمارات؛ حيث استقبلوه استقبال الملوك، لكن الإمام انشغل بأشياء أخرى ترجمها في مقولة لخصت مقدار الزهد عند الرجل وتلخص ما أردت إيجازه عن الإمام الزاهد العابد شيخ الأزهر.. "سعادتي ومُنيتي قبل أن ألقى الله أن أجلس على الحصير، وأترك كرسي المشيخة، وأُعلم الأطفال القرآن الكريم".