حقًا: إذا كانت الحضارة بالبناء.. والثقافة بالبحث والعناء، فإن العلم بالرجال العظماء والعلماء النجباء، الذين هم مشاعل نور واهتداء ومنارات للقدوة والاقتفاء.. يهتدي الساري بنورهم في الظلمات الحالكات، ويتثبت الناس بسمتهم ورسوخهم في بيداء الفتن وصحراء الشبهات..
العلماء حملة الدين وورثة النبيين، وهم عصمة للأمة من الضلال المبين، وهم سفينة نوح عليه السلام من تخلف عنها كان من المغرقين.. وهم أولياء الله الذين قال الله فيهم (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62)، وقال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أولياء الله: الَّذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ عزَّ وجلَّ"، وقال الإمام أبو حنيفة فيهم: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي.
والعلماء هم حراس الدين وحماته من الابتداع والتزييف، فعن معاذ وابن عمر وغيرهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – قال: "يحمِلُ هذا العلمَ من كلِّ خلَفٍ عدولُه ينفونَ عنهُ تحريفَ الغالينَ وانتحالَ المبطلينَ وتأويلَ الجاهلينَ". وفي تقديري، (بل في تقدير آلاف من الرموز العلمية والثقافية والحضارية في أنحاء الرقعة الإسلامية المترامية الأطراف في عالمنا الفسيح)، أنه يأتي على رأس هؤلاء الثقات والعلماء الربانيين بحق فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب حفظه الله ورعاه..
وإن كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتقوا إلى ربهم بعد أن أدوا رسالتهم مع نبيهم الأعظم، فإن أريج أفعالهم وعطر صنيعهم لا يتلاشى أو ينقضي أبدًا، وقد بقيت بقية متبقية من أريجهم؛ تتمثل في بعض رجال وعلماء هذا العصر، وعلى رأسهم الإمام الطيب شيخ الأزهر.
أقول ذلك ولا أنافق ولا أجامل ولا أبالغ في شخصه الكريم؛ فالرجل لا يحتاج لثناء من مثلي، ولا يزهو لإطراء غيري، لقد أذهلتني بعض الصور والفيديوهات التي تناقلها ونشرها رواد السوشيال ميديا عن حالة الترحاب والاستقبال المبهر لشيخ الأزهر الإمام الأكبر الطيب في العديد من دول العالم، التي تعرف قدره وقيمته، وكأن الناس كانوا في نوم عميق لم يعرفوا الرجل صاحب المقام الأعلى والخلق الأسمى.. كأننا كنا في جهل فاكتشفنا الرجل الآن، رغم أنه يعيش بيننا وعنوانه الزهد منصبًا وجاهًا ودنيا ومعيشةً.
إنه فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد محمد أحمد الطيِّب الحساني، شيخُ الأزهرِ رئيس مجلس حكماء المسلمين.. الذي اقتربت منه، عندما بدأت عملي بمؤسسة الأهرام العريقة كمحرر للشئون الدينية، وقتها كان رئيسًا لجامعة الأزهر، ورأيته لا يسعي حثيثًا وراء سلطة، ولا يبحث عن تقليد منصب حتى ولو كان أعلى منصب ديني؛ وهو (مشيخة الأزهر)، والذي يتشرف به أي عالم..
وأذكر موقفًا حدث يوم الأربعاء الموافق 17 مارس 2010 قبل توليه مشيخة الأزهر بيومين؛ حيث صدر قرار تعيينه في 19 مارس 2010م الموافق 3 ربيع الثاني 1431 هـ، دخلت عليه مكتبه بجامعة الأزهر، وكان جالسًا العلامة الفقيه المحدث الراحل الدكتور محمد عبدالفضيل القوصي، وزير الأوقاف الأسبق، وكان الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب واقفًا يستعد لصلاة الظهر، قابلني بابتسامته المعهودة، قلت له: "إن شاء الله ستكون حضرتك شيخًا للأزهر"، فرد عليَّ بعاطفة الأب وبلغته السمحة البسيطة غير المعقدة، التي تظهر جميل تواضعه وجزيل زهده: (والله يا محمد يا بني ما أريدها.. ولقد أبلغت الدكتور زقزوق، يقصد العالم الراحل الدكتور محمود حمدي زقزوق وزير الأوقاف الأسبق، يا حبذا أن يكون شيخ الأزهر غيري أو تكون أنت!.. فرد عليه الدكتور القوصي، بل أنت أحق بها وأهل لها يا مولانا)، وبعد تلك الواقعة بيومين صدر قرار الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، أثناء رحلة علاج في ألمانيا، بتولية الشيخ الطيب مشيخة الأزهر.
ولقد اختار الرئيس الراحل حسني مبارك الدكتور أحمد الطيب من بين خمسة أسماء عرضها الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية وقتها؛ لخلافة الإمام الراحل الشيخ محمد سيد طنطاوي في مشيخة الأزهر، وكان اختيار مبارك للإمام الطيب ليس لكفاءته وجدارته العلمية وثقله الثقافي فحسب، وإنما أيضًا لمهارة وإتقان الطيب للغتين الإنجليزية والفرنسية؛ حتى يكون شيخ الأزهر القادم صورة وهاجة وشعاعًا منيرًا يطل من (مصر الأزهر) على العالم بأسره، وحتى يخاطب الأزهر من خلال شيخه (العصري المهاب) العالمَ بلغاته المختلفة، ويكون الأزهر منفتحًا على المجامع العلمية العالمية المتنوعة بصورة أفضل من ذي قبل.
وبعد تولي الطيب المشيخة بأسبوع التقيت بفضيلته بمقر المنظمة العالمية لخريجي الأزهر ووجدته مهمومًا بثقل المسئولية وعبء تحملها، فقلت له هاشًا باشًا عند طلته ورؤيته: مبارك يا مولانا.. فرد علي، بصوت ونبرة العابد، ويقين وقلب الزاهد، وكأنه يعطيني أهم درس في الإخلاص والتجرد ومازالت كلماته تترنم في أذني: "يا بني كن زاهدًا في الدنيا يأتيك كل شيء دون طلب أو تعب.. كنت أستاذًا مغمورًا بجامعة الأزهر، ثم أصبحت عميدًا لكليةِ الدراساتِ الإسلاميةِ والعربيةِ للبنين بمحافظة قنا، ثم عميدًا لكليةِ الدراساتِ الإسلاميةِ بنين بأسوان، ثم عميدًا لكليةِ أصولِ الدينِ بالجامعةِ الإسلاميةِ العالميةِ بباكستانَ، ثم مفتيًا للديارِ المصريةِ، ثم رئيسًا لجامعةِ الأزهر، ثم شيخًا للأزهر، ولم يكن لي من ظهير أو نصير من عائلتي أرتكن إليه أو أعول عليه في منصب أو جاه، إلا ما حباني الله به من علم وما هداني به من عمل.. فمن توكل على الله واتقاه أعطاه أكثر مما يتمناه".
وبصفة عامة، فالإمام الطيب له الكثير من المآثر والمواقف التي لا يمكن سردها بمقال أو جمعها بصفحات؛ فمنها: أنه لا يتقاضى راتبًا عن منصبه كشيخ للأزهر، بل يكتفي براتبه كأستاذ متفرغ بجامعة الأزهر، ويقول إنه يؤدي عمله في خدمة الإسلام، ولا يستحق عليه أجرًا إلا من الله، كما أنه قد تنازل عن الكثير من مخصصاته زهدًا وورعًا؛ لدرجة أنه أصدر قرارًا بأن أي هدايا أو مبالغ لشخص شيخ الأزهر توجه لخزينة الدولة والأعمال الخيرية بالأزهر الشريف، وبدأ بتنفيذ ذلك على نفسه حيث حصل فضيلته على جائزة شخصية العالم الإسلامي من الإمارات، وقيمتها مليون درهم إماراتي، وقد وجهت كلها، بتوجيهٍ منه، في خدمة المكتبة المركزية لطلاب الأزهر الشريف.
ومن المآثر والمواقف المشرفة التي لا تنسي للإمام الطيب: أنه بادر ذات مرة بإرسال خطاب للدكتور فياض عبدالمنعم وزير المالية الأسبق عام 2013 يطلب فيه رد هدية تلقاها من إحدي الدول، رغم أن شيخ الأزهر لا يعد عضوًا في الحكومة، ولا تسري عليه قراراتها والهدية كانت عبارة عن ساعتين ماركة سويسرية، وتم تسليمهما بالفعل لوزارة المالية؛ حيث يرى الطيب أن هذا يأتي من منطلق النزاهة والشفافية التي أصلها الشرع الحنيف، وطبقها صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة الآن أحوج ما تكون إلى سلوك هذا المسلك؛ لدعم الاقتصاد المصري، والعمل على بناء الوطن وتنميته وهذه المواقف وغيرها لا تصدر إلا من الزهاد العباد الذين يستوي في عيونهم تبر الدنيا وترابها.
ويذكرني بواقعة حكاها لي الأستاذ نبيل رحمه الله وكان من مديري مكتب الطيب عندما كان رئيسًا لجامعة الأزهر، أن الإمام كان يقوم بإلغاء كافة الاستمارات الخاصة ببدل كل اللجان، ولا يتقاضى إلا راتبه فقط؛ لدرجة أنه في نهاية شهر يونيو مع نهاية السنة المالية تصرف رواتب العاملين بالدولة مبكرًا عن كل شهر، وأثناء قيامه بإعطاء شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب راتبه، رفض أن يأخذه إلا بعد تأكده بأن الجميع حصل على راتبه في نفس الموعد.
ولقد خصص الطيب الكثير من المعونات من الأزهر للمتضررين من السيول والنكبات، وبناء المستشفيات ودعم المرضى والمساعدات للأرامل والأيتام، وتعويض ضحايا الإرهاب، وقدم الكثير من رحلات الحج والعمرة لأقارب وذوي الضحايا، واهتم أكثر الاهتمام بالطلاب الوافدين؛ لدرجة أنه أصبح يلقب بـ (أبو الوافدين).