ليست "وصفات" صندوق النقد الدولي جميعها مر ولا "روشتاته" كلها لا تجلب التعافي، فالتجارب تقول إنها تحمل في بعضها إجراءات محورية واجبة وسياسات جوهرية فاعلة تدعم اقتصاديات الدول، وتعيد هيكلتها على أسس اقتصادية سليمة توفر لها فرص النمو والتخلص من أزمات وتحديات إذا ما استمرت ربما تتسبب فى أزمات اقتصادية مزمنة لا تعالجها الحلول التقليدية.
ودور صندوق النقد استشاري يقدم النصيحة ويطرح الحلول، وأحيانًا ترى الحكومات أن ما يطرحه صندوق النقد غير مناسب، أو ربما يأتي بنتائج اجتماعية غير مرغوب فيها، فلا تأخذ بها، أو تقوم بتعديل أداوت تطبيقها وآليات تنفيذها، وتحقق في النهاية النتائج المرجوة.
ومصر منذ أن دخلت في مفاوضات مع الصندوق توجت باتفاق يهدف إلى إجراء إصلاحات هيكلية تدعم تحقيق نهضة تنموية تواكب طموحات وأهداف الجمهورية الجديدة؛ وهي تعمل على موازنة وصفة الصندوق ومتطلبات الإصلاحات التي تقوم بها من خلال برنامج مدروس يأخذ في الاعتبار إنجاز إصلاحات اقتصادية تدفع التنمية بمفهومها الشامل إلى الأمام، وفي ذات الوقت لا تزيد من الأعباء على كاهل المواطنين، وفي هذا السياق حرصت الدولة على تنفيذ برنامج للحماية الاجتماعية بالتوازي مع برنامج الإصلاحات الاقتصادية.
ويأتي اجتماع مجلس إدارة صندوق النقد الدولي غدًا لبحث الموافقة على المراجعة الثالثة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي المصري، في خطوة مهمة تؤكد سلامة المسار الاقتصادي وتدعم برنامج الإصلاحات، وفي حالة موافقة الصندوق على المراجعة الثالثة تحصل مصر، على شريحة جديدة من القرض البالغ 8 مليارات دولار بقيمة 820 مليون دولار، وهو ما يمهد الطريق للحصول على تمويل إضافي لمشروعات المناخ بقيمة 1.2 مليار دولار من صندوق "الصلابة والاستدامة" التابع لصندوق النقد لكن الأهم من كل ذلك هو دلالة الموافقة على المراجعة وهى بمثابة "شهادة ثقة" جديدة ستفتح الطريق أمام المزيد من التدفقات الاستثمارية في شرايين الاقتصاد؛ وهذا يعنى إنتاج أكثر وصادرات أكبر، وفرص عمل للشباب أوسع.
..لكن السؤال: هل هناك مؤشرات على نجاح الإصلاح الاقتصادي؟.. الإجابة بالتأكيد هناك بوادر إيجابية مهمة تؤكد سلامة مسار الإصلاح، ولعل أهمها ما أعلنت عنه الحكومة قبل أيام من تراجع للدين الخارجي بنحو 14 مليار دولار، وهي علامة تؤكد سلامة بقية المكونات في الاقتصاد المصري، إذا ما أضفنا إليها التراجع الذي بدأ في معدلات التضخم، وإذا ما أضفنا أيضًا الزيادة الملحوظة في الصادرات والتدفقات الاستثمارية وتحويلات المصريين في الخارج واستقرار سعر الصرف وقدرة الدولة على توفير مخزون من الغاز؛ لتلبية احتياجات محطات الكهرباء، ووقف تخفيف الأحمال، كل هذه المؤشرات وغيرها من دلالات ما كان لها أن تحدث لو كانت هناك مشكلة أو -لا قدر الله- ما تقوم به الدولة من إصلاحات لا يأتي بنتائج.
ورغم ذلك لا يعني أن الأزمة الاقتصادية انتهت ولا الضائقة توارت؛ بل هناك عمل شاق، وجهود مضنية لابد منها للحفاظ على ما تحقق من مكتسبات، وتحقيق معدل نمو مستدام يوفر للاقتصاد فرصة التطور والقدرة على امتصاص الصدمات الخارجية، التي لا تزال تمثل تحديًا كبيرًا للاقتصاد المصري، وهنا أشير إلى تداعيات الحرب على غزة، وما سببته من تراجع في عائدات قناة السويس.
ولا شك أن ما أعلنت عنه الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور مدبولي عبر برنامجها يوفر للمسار الاقتصادي فرصًا واعدة للنجاح خلال المرحلة المقبلة إذا ما أحسنت الحكومة في سياساتها، وأصابت في تحقيق مستهدفاتها، وفي مقدمتها خفض معدلات الدين وزيادة الإنفاق على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، وقبل كل ذلك خفض معدلات التضخم لضمان استقرار الأسعار، والأهم أيضًا جعل زيادة استثمارات القطاع الخاص، ودفع الأنشطة الإنتاجية والتصديرية في صدارة الأولويات وقمة السياسات.
المؤكد أن طريق الإصلاح ليس سهلا، وفي نفس الوقت فإن تحقيق النهضة الشاملة لمصر ليس مستحيلا، بل هو أقرب من ذي قبل؛ فقد نجحت الدولة خلال العقد الماضي في وضع قواعد هذه النهضة، عبر تنفيذ أكبر برنامج تنموي يوفر البنية التحتية اللازمة للتنمية، وإعادة بناء القدرات الشاملة للدولة بما يؤهلها لتحقيق التقدم الذي يضمن حياة كريمة للمواطنين والأجيال الجديدة.
[email protected]