بحكم عملي في الصحافة لمدة تزيد على ثلاثة عقود فإنني أتابع الأخبار لا كما يتابعها الآخرون، بل أختزن وأحلل وأقارن وفي النهاية تتولد عندي قناعات جديدة تختلف قطعًا عما بدأت به حياتي الصحفية.
هل هي حالة من النضج؟ أم مرحلة من المراحل الطبيعية للتقدم في العمر؟ مهما يكن الأمر فقد أصبحت أقل اكتراثًا وانفعالًا أمام أخبار مثيرة للغضب والاستفزاز، وأكثر انفتاحًا أمام المخالفين لي في الرأي؛ لأن الحق الصريح الناصع اختفى خلف ضباب التناقض والزيف، ولم يعد بالإمكان أن تقنع أحدًا برأي واحد قاطع؛ فلكل واحد مبرراته وأسبابه ومعطياته لإثبات آرائه التي يعتقد بصحتها.
ربما يكون مقالي هذه المرة مختلفًا، أجول خلاله بناظريَّ فيما حولي معلقاً على حدث هنا وموقف هناك، والرابط الوحيد بين موضوعات المقال أنها من صلب الحياة، من حدث قومي أو حوار شخصي أو كلام قيل أو كُتب، وهل الحياة إلا مجموع ما نفعل وما نقول؟
ثورة جيش وشعب
المناسبات المتكررة كل عام ترتد بنا إلى أزمان ماضية، لا لمجرد اجترار الذكريات أو للتأسي بأحداثها فحسب، بل لنقارنها بما يجري حولنا اليوم فنعتبر ونعي..
ثورة يوليو 1952 هي إحدى تلك المناسبات التي أثرت في تاريخنا المعاصر تأثيرًا ممتدًا عميقًا، وفصلت بين عهدين، ورسمت طريقًا جديدًا لمستقبل مصر.
الحركة المباركة، كما دعوها في البداية، تمت على أيدي تنظيم الضباط الأحرار، هذا الذي نشأ أولاً بفضل صدور معاهدة 1936 التي بموجبها سمح الإنجليز لنا بتعظيم حجم الجيش المصري من 398 ضابطًا فقط إلى 982 ضابطًا! عدد قليل حقًا، لكنه كان كافيًا لبلورة الحركة الوطنية المتصلة منذ مصطفى كامل إلى محمد فريد إلى سعد زغلول إلى مصطفى النحاس.
أما تنظيم الضباط الأحرار فقد تأخر تكوينه حتى مطلع عام 1949، قبل الثورة بثلاثة أعوام فقط، وكانت الاجتماعات السرية تنعقد في بداياتها في أسيوط بمنزل جد الزعيم عبدالناصر بقرية بني مر، فكان الضباط يجلسون على مصطبة بلدي صُبت بالطين بجوار مبنى قديم من الطوب اللبن ومسقوف بجذوع النخل.
وبداية من منتصف عام 1952 انعقدت الاجتماعات بمنزل عبدالحكيم عامر بمصر الجديدة بالقرب من سينما روكسي، والغريب أن الموعد المحدد للثورة كان من المفترض أن يتم في مطلع أغسطس، إلا أن الظروف أجبرت عبدالناصر ليقرر تقديم الموعد بعد أن وجدوا الظروف مواتية للتحرك؛ إذ انتهز فرصة وجود وحدة مدرعة بأفرادها ومعداتها جاهزة للانطلاق، واستبق تحركات القصر الملكي الذي سمع بتحرك الجيش ضده، فقام بحل مجلس إدارة نادي الضباط في 16 يوليو؛ ولهذا تحرك الضباط الذين لم يزد عددهم على مائة ضابط ليقوموا بالاستيلاء على المقر العام للجيش، وإغلاق الطرق المؤدية للقاهرة، وسيطروا على مقر الإذاعة ليصدروا البيان الأول للثورة.
خلال يومين سيطر الجيش على مقر الملك فاروق بالإسكندرية بقصر المنتزه، وذلك بعد لجوئه لقصر رأس التين خوفًا على سلامته، وكان من رأي بعض الضباط أن تتم محاكمة الملك وإعدامه، لكن انتهى الرأي لنفي الملك فاروق لإيطاليا، بعد تنازله عن العرش لصالح ابنه ولي العهد الأمير أحمد فؤاد تحت الوصاية.
ترتيب البيت الداخلي استغرق عدة سنوات قبل أن تعلن الثورة مبادئها الستة: القضاء على الاستعمار والاقطاع، وعلى سيطرة رأس المال، ثم إقامة جيش وطني، وعدالة اجتماعية وحياة ديمقراطية، وبعد أن كان المجتمع المصري منقسمًا لطبقتين، إحداهما غنية ثرية تمتلك السلطة والقوة والمال، وقوامها الأتراك والإنجليز والطليان واليونانيون، والطبقة الأخرى هم الفلاحون المصريون الكادحون أصحاب الوطن.
وانصرف كل هؤلاء وعادت الأرض لفلاحيها ومزارعيها، وانطلقت الأغاني تدعو لإقامة نهضة صناعية كبرى، وبعد أن تقلبت مصر بين باشوية وخديوية وسلطنة وملكية، صارت جمهورية مصرية خالصة للمصريين.
هكذا هي الأحداث الكبرى والتغيرات المحورية تبدأ صغيرة ثم تكبر وتتبلور وتنضج حتى تؤتي ثمارها.
علامة خطيرة!
بغض النظر عمن سيرتقي سلم الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية لكنني غير متفائل بمستقبلها؛ والسبب ألسنة حكامها ولغتهم الخطابية!
لا أكاد أبالغ إذا قلت إن أحد أسباب تقدم الولايات المتحدة أنها كانت تتحلي، ولو ظاهريًا بمبادئ وقيم تقوم عليها الحضارات كالعدل والحرية والمساواة؛ لهذا كتبَت على عملتها الرسمية عبارة : "نحن نثق بالله: In God we trust"، برغم أن أغلب سكان أمريكا ملحدون أو علمانيون، لكن القانون الأمريكي يحمي حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية بدرجة ما.
الآن الأمر مختلف كثيرًا عما مضي، فلا عدل ولا مساواة ولا ديمقراطية، وقد كشفت غزة مدى النفاق الأمريكي، وأسقطت عنها ورقة التوت.
في أمريكا اليوم أصبح من الممكن شراء القضاة؛ لإصدار أحكام تصب فى مصلحة الديمقراطيين أو الجمهوريين، وباتت هناك قوانين تضيق على المهاجرين والأقليات حياتهم ومعايشهم أكثر مما مضى، حتى فى ظل حكم الحزب الديمقراطي ذي المبادئ الليبرالية!
ثم هناك علامة أخرى تراها واضحة في أداء حكام أمريكا اليوم، وهي لغة خطابهم المنحلة من كل البروتوكولات والأخلاقيات؛ اسمع ترامب وهو يتحدث ويشتم خصومه، فستسمع لغة بذيئة لا يمكن أن تصدر من إنسان مهذب، فضلًا عن أن تصدر من رئيس سابق لأقوى دولة! والعجيب أن مثل هذا الخطاب صار يستهوي أنصاره من الأمريكيين المحافظين والعنصريين.
هذا مؤشر قوي وواضح لمدى التدني الأخلاقي الذي وصلت إليه أمريكا كحضارة، وهو تدني لم يبدأ الآن، لكنه وصل لذروته، ولعلك تلمس هذا حتى في لغة الإعلام والأفلام ومنتجات هوليوود الفنية الآن التي تدعو للمجون والجنون والتجرد من كل القيم.
يضاف هذا أسباب كثيرة طالما استفضت في شرحها، تجعلني على يقين من أن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش الآن إرهاصات سقوطها الحضاري.
الباحثون عن الصداع!
صديق سألني ببراءة: كيف أكون مثقفًا؟ فترددت في إجابته، وقلت له ما خطر بذهني يومها من إجابة تقليدية لا تقطع أمله، ولا تحرجني معه، لكن في ضميري كان هناك رد آخر تمنيت لو قلته له: "ولماذا تريد أن تكون مثقفًا؟ إن الجهل لعمري نعمة. أتريد أن تبحث عن الصداع وتعب القلب والذهن والأعصاب فتحفر قبرك بنفسك!!؟ الأفضل ألا تعرف، وألا تشغل ذهنك بإصلاح الكون كما يفعل المثقفون، هؤلاء الذين يحاربون طواحين الهواء؛ لأنهم لم يجيدوا أن محاربة أعدائهم الحقيقيين: الفقر والمحسوبية والروتين والغلاء.
يا صديقي: إن الثقافة لعنة أصابت فئة مغلوبة على أمرها، وإن حملتها عزة النفس على التجمل والتحمل ورفع الرأس برغم هموم تحني الهامات، المثقفون مصابون بداء البحث عن الصداع! فلا تكن مثلهم. نهارهم صحف وجرائد ومجلات وأخبار معظمها يغم النفس ويسد الشهية، ومساؤهم تفكير فيما قرأوه فى النهار!
كن مطربًا أو لاعب كرة أو حتى لاعب سيرك، لكن لا تفعل كسائر الشباب الهاربين من همومهم للمقاهي ينفثون في دخان نرجيلتهم متاعبهم، ويملأون صدورهم بغبار أسود يقصر الأعمار، فكأنهم ينتحرون انتحار الساخرين اللامبالين.
الثقافة قراءة ورحلة وحوار، كلام تسمعه وتقوله وتكرره، ومبادئ تعتنقها وتنادي بها، ثم تكتشف أن الآذان صماء، وأنك كمن يؤذن في مالطا! الثقافة إرث أجدادك وعاداتهم، وهو إرث ليس كله خير ونعيم، بل فيه من المتاعب والمصاعب والشدائد ما ملأ آلاف الصفحات في تاريخنا الممتد الطويل المرهق.
يا صديقي: الثقافة اختيار، وقد اختارتنا الثقافة أو اخترناها نحن فأسأنا الاختيار، ولو كنت حريصًا على صحتك النفسية والذهنية والعضوية فاختر أي شيء آخر إلا أن تكون مثقفًا!
[email protected]