وكأنه محكوم على العقل العربي، والعقل المصري على وجه الخصوص، بالتعرض للافتراءات المجحفة لحقه الأصيل في التفكير الناقد، والتفكير الإبداعي؛ سواء في جانبه النظري أو في جانبه العملي.
وللأسف الشديد، وهذا جد محزن، أن من يتهم عقولنا العربية والمصرية الأصيلة أشخاص من بني جلدتنا نحن المصريين، وكأننا مكتوب علينا أن نقف دومًا موقف المدافعين عن أصالتنا وحضارتنا وتاريخنا الإبداعي.
لماذا كل هذه الحرب الضروس على عقلنا المصري المتعلم ولصالح من؟ فبدلا من أن تتوحد الجهود ونقف صفًا وحدًا ضد من يثير الشبهات حول عقولنا المصرية، وأنها عقول تخزينية، تعتمد في درسها على التلقين والحفظ والقص واللصق والتقليد الأعمى.
يهب من بني جلدتنا من يكيل لعقولنا المصرية الاتهامات، وإنها عقول فاقدة الهوية الإبداعية الابتكارية.
دعونا الآن نجتهد في وضع تعريف لكلا المصطلحين، أما المصطلح الأول فهو العقل التخزيني، فما المقصود بهذا المصطلح؟ أقول هو العقل المتلقي الحفيظ الذي لا ينقد ولا يبحث، ولا حتى يكون لديه ملكة الجدال، وإنما يكتب ما يملى عليه من الملقن الآخر، مثله مثل خزانة البيوت التي يضع فيها أصحابها مقتنياتهم.
وأمثال هذه العقول عاجزة عن الإبداع.
أما مصطلح العقل الإبداعي، فهو العقل المتفكر المبدع الذي يرفض التبعية الممقوتة، وإنما دأب صاحبه النقد والتمحيص دونما تسليم بما يقدم له، ليس هذا فحسب؛ بل وصاحبه يكون لديه ملكة الإبداع متقدة فعالة على الدوام، في كل المجالات في الآداب، الفنون، كافة العلوم سواء النظرية أو العملية، وجمال إبداعاتها مستقى من حرياتهم الإبداعية، فلا قيد على المبدع، عندما يأتيه الإلهام ينطلق لا تحده الحدود ولا تقيده الأمكنة.
وهذا ما نراه في العقل المتعلم المصري، عقل مبدع ينتقل بما تلقاه من علم ينتقل به من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود الفعل، بما إخراج هذه العلوم التي اكتسبها بالدرس والتعلم إلى تطبيقها على واقعه المعيش مبدعًا في كيفية الاستفادة منها وإفادة مجتمعه، فعلى سبيل المثال نجد المعلم الذي تخرج من كليات التربية أو الآداب أو أي كلية نظرية أو عملية حتى، يحاول أن يكون مبدعًا فى تطبيق ما تعلمه مع طلابه فى تعامله مع شرح مقرراتهم الدراسية، أو إن كان مهندسًا أو طبيبًا، إبداعية التطبيق، قس على ذلك إبداعات خريجي كليات الفنون الجميلة والفنون التطبيقية الذين يتعاملون مع الحجر ويحولونه إلى لوحات فنية غاية فى الإبداع، سواء كانت نحتًا أو رسمًا، وفنون وإبداعات الأرابيسك ليست منا ببعيد، أليست هذه عقول متعلمة مصرية.
وإذا ما عدنا إلى الوراء بالذاكرة، فسنجد إبداعات المصريين القدماء، الغائبين الحاضرين، ما هذه الروعة التي نجدها في فنون الرسم على جدران المعابد والأسر الفرعونية، روعة الأصباغ والألوان، وفنون وهندسة العمارة، من الذي شيد الأهرامات العظيمة، مبدعون مصريون، من الذي شيد المعابد، والقصور، المعماري المصري المبدع، أليست هذه عقول متعلمة مصرية.
أما بالنسبة لبراعة العقل المتعلم المصري، فيمكننا أن نقسم إبداعاته التي تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه العقول ليست متلقية فقط - وإن كنا نرى أن ثمة حالات شاذة تركن إلى التلقين وتتقوقع حوله، لكن ذلك لا يجعلنا نطلق الأحكام على عواهنها، ونعمم الأحكام، ونقول إن العقل المتعلم المصري عقل تخزيني.
ففي مجال العلوم النظرية، أين من اتهمنا بهذه التهمة؟ ألم يأته نبأ إبداعات الأدباء في كل فنون الأدب؟ أين هو من طه حسين، وأحمد لطفي السيد، وأحمد أمين، وأمين الخولي، وجاد الحق علي جاد الحق، وزكي نجيب محمود، ونجيب محفوظ، وعبدالوهاب، وأم كلثوم، ومحمد مختار، وعمالقة الفن المسرحي محمد صبحي، وجلال الشرقاوي، وسعد أردش، وغيرهم كثر؟! ألم يخرج هؤلاء ما تعلموه في كلياتهم وأكاديمياتهم من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل عن طريق ملكة الإبداع.
ليس في الأدب والفن فقط؛ بل في كل صنوف العلوم والمعارف، في التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة وعلوم الدين.
أما بالنسبة للعلوم العملية، فلا يخفى على أحد برنامج المخترع الصغير الذي كان يقدم في التليفزيون المصري، ولا يخفى على أحد علامة الطب الفارقة في تاريخ مصر والعالم، جراح القلب مجدي يعقوب، والعالم العملاق -رحمه الله تعالى- أحمد زويل، وعالم الذرة فاروق الباز، وأحمد مستجير، وعالم الكبد العملاق فؤاد ثاقب.. وغيرهم كثر!! أليست هذه عقول مصرية إبداعية؟! هل هذه العقول تخزينية؟!
ورب واحد يطرح سؤالًا فيقول: هذه العقول نبغت عندما تركت البلاد وتبنتها دول أجنبية، نقول هذا صحيح؛ لكن ملكة الإبداع موجودة بعقولهم أم لا؟! بالحتمية المنطقية لولا أن هؤلاء مبدعون ما تبنتهم هذه الدول، لكن إن تلقت هذه العقول علومها في مراحلها الأولية، في مصر، لذا أهيب بالسادة المسئولين عن التعليم والبحث العلمي توفير الموارد والإمكانات اللازمة لاكتشاف هذه العقول للاستفادة منها فى بلدنا، بدل أن يستفيد من خبراتهم الأجانب، وأعتقد أن هذا ما تسعى إليه الدولة الآن، ونحن على أعتاب جمهورية جديدة يسعى الجميع إلى إحداث نهضة شاملة وتنمية مستدامة في كافة المجالات وعلى مختلف المستويات والمشروعات النهضوية.
أما أن يكال لعقولنا المصرية المتعلمة جزافًا، فهذا ما لا يمكن بحال من الأحوال قبوله أو السكوت عنه، فزمن السكوت قد ولى وانقضى، وزمن عدم الرد على أمثال هؤلاء ومن أشياعهم انتهى، وأقول لهم (لا عفوا)، رصيدكم انتهى.
ليس عيبًا أن نكون من أهل الحداثة والاستنارة، ليس عيبًا أن نكون من أهل المواكبة والمعاصرة، ليس عيبًا أن نساير ركب التقدم التقني والمدنية الحديثة، لكن العيب أن تستغرقنا المادية المسرفة، وأن تستغرقنا بالكلية، العيب كل العيب أن نقع في فخاخها وشراكها.
العيب أن نفقد هويتنا ونجعل الغرب يسري في عروقنا مسرى الدم، فحتمًا سيتجمد هذا الدم أو على أضعف الإيمان سيتجلط، وإذا ما حدث ذلك فسنفقد هويتنا العربية والإسلامية.
إن عقولنا المتعلمة المصرية ليست عقولًا تخزينية، وإنما هي عقول إبداعية، وهذا ما نعلمه لطلابنا في جامعاتنا المصرية، نعلمهم التفكير النقدي الإبداعي، نستخرج ما بداخلهم من إبداع وتفنن في النقد البناء الذي يبني ولا يهدم، وهذا ما نراه الآن من إبداع بعض الباحثين في رسائلهم العلمية، لا أقول كل الرسائل وإنما نحاول، وهذه المحاولات فكر إبداعي.
* أستاذ ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان