لم يكن الإفراج أخيرًا عن 79 من المحبوسين احتياطيًا سوى تفاعل واستجابة للقوى السياسية في مصر، ونتاجًا للحوار الوطني الذي دام أكثر من عامين فيما بين هذه القوى، وأحد شواغل وتوصيات ومخرجات الحوار. وهي خطوة على طريق الانفتاح والإصلاح السياسي على حد تعبير الرئيس السيسي في إفطار المائدة المصرية في السابع من أبريل من العام الحالي 2024. من حيث تأكيده "دعم حالة الانفتاح والإصلاح السياسي التي بدأت منذ إطلاق دعوتي للحوار الوطني في أبريل 2022"، و"دعمت مخرجاتها الأولى"، والتي تتعدى الـ90 توصية ومقترحًا.
تعد خطوة الإفراج عن 79 من المحبوسين احتياطيًا اقترابًا من الملف المزعج، وهو ملف الحبس الاحتياطي بكل مشكلاته، وتفصيلاته المعقدة، والذي يحتاج إلى مزيد من جهود وتوافق القوى المشاركة في الحوار الوطني، لإنجاز أو تعديل قانون الإجراءات الجنائية، انتصارًا للعدالة التي يستحقها كل المصريين بشكل متساوٍ، وخطوة نحو تصفية هذا الملف نهائيًا.. وأحسب أنها مهمة الحوار في جلساته القادمة، وأحسب أيضًا أن ملف الحبس الاحتياطي لم يغب يومًا عن المشاركين في الحوار منذ اليوم الأول.
ولعلنا نراجع التوقيت الذي طالب فيه الرئيس السيسي بإجراء حوار وطني شامل يشارك فيه الجميع بما في ذلك القوى المعارضة ممن لم تتلوث يديها بدماء أبناء الشعب، كمانع وحيد. فقد كانت البلاد وهي تتعافى من جائحة كورونا والتي أدارتها الحكومة المصرية بكفاءة عالية، خلال عامين مرعبين (2020 ـ 2022)، وربما لم تتلق التقدير، وقد أنفقت فيها المليارات بسخاء، وخرجت منها إلى تداعيات الحرب الروسية في أوكرانيا (التي بدأت في 24 فبراير 2022) وتأثيراتها الموجعة، تدرك فداحة انسداد الأفق السياسي. أو دعنا نقول إن توقيت الدعوة إلى الحوار جاء في لحظة انتهاء مرحلة الحرب ضد قوى الإرهاب التي تحمل السلاح لهز أركان الدولة، والبدء في مرحلة جديدة، كانت الدولة ترصد خلالها نوعًا آخر من التأليب والتشكيك بهدف إسقاطها.
في تلك اللحظة الفارقة كانت الدعوة إلى الحوار، ونذكر أنه في يوم إفطار الأسرة المصرية قبل أكثر من عامين (26 أبريل 2022)، جرى طرح فكرة الحوار بهدف كبير هو "وطن يتسع للجميع"، ونذكر أيضًا أن السجن الاحتياطي وملف السجناء السياسيين كان الباعث والهاجس المباشر لكثيرين حضروا إفطار الأسرة المصرية في ذلك اليوم، ممن يُحسبون على المعارضة أو يُعدون جزءًا أساسيًا من مكوناتها، مع ملاحظة الترحيب الواسع بالحوار من الكافة.
وكان السؤال عشية الحوار: هل يمكن أن نُورد قضية حساسة كهذه بشكل مباشر ومفتوح؟ وهل بوسع الحوار الوطني المقترح أن يناقشها؟ وكل المعارضين المشاركين ألقوا التساؤلات منذ اليوم الأول حول الحبس الاحتياطي، وفي الجلسة الافتتاحية طرح عمرو موسى رئيس لجنة الخمسين للدستور الحالي (2014)، سؤالا عن "مصير المحبوسين احتياطياً، مع مطالبته بضرورة التعامل الفوري والشامل لإغلاق هذا الملف بشكل نهائي.
وبرهن الحوار، كما برهنت القيادة السياسية عن سعة صدر في تلقي ظلال تلك الأسئلة وقررت التعامل معها، جنبًا إلى جنب توصيات الحوار الوطني، وقبل أي مخرجات صدرت قرارات عفو رئاسي بإطلاق عشرات السجناء من المحكومين بقرارات قضائية.
في إفطار الأسرة المصرية الأخير أعاد الرئيس السيسي تأكيد قناعاته بضرورة "استمرار حالة الحوار والنقاش والتواصل فيما بيننا وفي كل الموضوعات التي يجب تناولها بكل سعة صدر"، وأنها "ستكون خسارة كبيرة ألا نستمر على النتائج الرائعة التي تحققت ونبني عليها أكثر، ونتكلم في كل شيء"، وضرورة أن "نتواصل ونتحدث وليس شرطًا أن نتفق، لكن نضع آرائنا ووجهات نظرنا المختلفة"، والمهم "أن نستمر في الحوار في هذه المرحلة؛ لأن أمامنا تحديات كثيرة ظهرت خلال الأشهر الستة الماضية في المنطقة والإقليم وفي العالم"، وأكد أننا إذ "نتكلم مع بعض أكثر، يمكن أن نجابه أي تحد خارجي ونتعامل معه ونتجاوز مخاطره، ومن هنا تبقى كتلة مصر"، وكلما "كنا كتلة صلبة وصامدة وداعمة سنقدر أن نجابه أي تحدٍ أو مخاطر".
تحددت توصيات المرحلة الأولى في اجتماع مجلس أمناء الحوار في شهر أغسطس 2023 وهي التي تم رفعُها للرئيس، والاستجابة لها تغذي فكرة ألا شيء ذهب مع الريح، أو أنها مكلمة لمن حضر ويقدر على تستيف العبارات.
وهذا يعني احترام الأسماء التي انخرطت في 44 جلسة، منها: 16 جلسة في المحور السياسي و13 جلسة في المحور الاقتصادي و15 جلسة في المحور المجتمعي، وشارك فيها على مدار ثلاثة أشهر 65 حزبًا بمختلف التوجهات السياسية، وأكثر من 20 ممثلا للسفارات والقنصليات، وبمشاركة أكثر من 7223 مشاركًا بجميع الجلسات.
واستطاع الحوار تفعيل أمور كثيرة كانت راكدة في الحياة السياسية المصرية، وربما من أكثرها جذبًا للأنظار تفعيل لجنة العفو الرئاسي، واستمرار خروج عدد من المحكوم عليهم والمحبوسين على دفعات متتالية. كما اشتغلت لجنة حقوق الإنسان على تقديم توصيات مهمة حول قضيتيّ القضاء على التمييز، والحريات الأكاديمية والبحث العلمي.