يشهد عالمنا اليوم تسارعًا في شتى جوانبه ومجالاته وتطورًا هائلًا للأحداث سياسيًا، واقتصاديًا، وعسكريًا، ويواكب ذلك أزمات عالمية صحية ومالية ومناخية وبيئية متلاحقة، وصراعات مسلحة في كثير من الدول، وتصدير للإرهاب العملي والفكري، وخطابات الكراهية والإقصاء والعنف، وتحولات اجتماعية وثقافية كبيرة تهدد الهوية الإنسانية والأسرة والمجتمع كله، تتعاظم معها التحديات الأخلاقية والفكرية التي تواجه المجتمعات في مختلف دول العالم، وبخاصة المجتمعات الإسلامية ومنطقة الشرق الأوسط، ما جعل الجميع يتساءل حول حقيقة كثير من الأسس والأنظمة التي نتحاكم إليها، وحقيقة القيم والمبادئ التي تقوم عليها، ومدى اتساقها مع المعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية العامة، واحترامها لحقوق الإنسان وهويته ومقدساته وحريته، مما يجعلنا بحاجة حقيقية ماسة وملحة إلى تحديد وإعادة بناء وهيكلة منظومة مبادئ حاكمة جديدة تقوم على تعظيم وتفعيل دور الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة لمد جسور التعاون وإرساء روح الإخاء والسلام، وفتح قنوات الاتصال بين الشعوب، واحترام الهويات والخصوصيات الدينية والوطنية والثقافية، وإقامة العدالة وقواعد القوانين الدولية.
فالأخلاق هي روح ولب الأديان السماوية وعماد المجتمعات الإنسانية ولبنة استقرارها الأولى؛ بحيث لا يتصور وجود مجتمع أو أمة متقدمة باقية ولها مكانتها دون وجود منظومة من الأخلاق والمبادئ والمعايير المجتمعية العامة التي ترعى هذا المجتمع من داخله وتنظم علاقته ببعضه وبمحيطه الخارجي؛ لتحقق استقراره واستمراره على مختلف الأصعدة، كما لا يستطيع الفرد أن يستغني عن الأخلاق لتحقيق صلاحه وسعادته في حياته الخاصة وفي مجتمعه عمومًا.
وقد اهتمت الشريعة الإسلامية بالجانب الأخلاقي وإعلاء مكانته بشكل لافت للنظر، فجاءت نصوص القرآن الكريم والسنة تدعو إلى التمسك بالأخلاق في شتى جوانب الإنسان في عباداته وسلوكياته وتعاملاته، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لخص دعوته ورسالته والقصد من بعثته بقوله: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وفي حديث آخر قال: «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق، وتمام محاسن الأفعال». تلك المكارم التي يتأتى معها خير البشرية وصلاح أمرها ورقيها ونشر قيم المحبة والسلام بين الناس أجمعين، وقد عرف العلماء الأخلاق بأنها تلك الهيئة الراسخة في النفس التي يصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر دون فكر وروية (تلقائيا) ومن هنا يظهر جانبها المهم في النفوس إذا تحققت بتلك المكارم الأخلاقية فيصدر عنها كل فعل حسن بشكل تلقائي دون افتعال أو تكلف؛ ما يسهم في بناء مجتمع صادق في أفعاله متسق مع ذاته، وذلك ما نشير إليه بالبناء الأخلاقي.
ولا شك أن الأخلاق هي المسئولة عن بناء المجتمع من داخله وعن تقويمه إذا ظهر فيه الاعوجاج بشكل تلقائي، وإعداد أفراده إعدادا فاضلا، فهي ضمير الإنسان الحي ومبادئه ومُثُله العليا التي يمتثل لها ويتأسى بها، وهي القاعدة الأساسية التي تبنى عليها المجتمعات؛ بحيث تؤسس عليها جميع القوانين والأنظمة والأطر المنظمة للمجتمع كله في الداخل والخارج، فلا يأكل القوي منا الضعيف، بل يحميه القانون ويرعى مصالحه، ولا تستقوي الكيانات الكبرى على الشعوب المستضعفة، كما أن بناء الأخلاق المتكامل يمثل حائط الصد الأول أمام الأفكار الشاذة والهدامة التي تهدد المجتمع من داخله، وتعبث بهوية أفراده ومرجعياته الدينية والثقافية والاجتماعية، لا سيما أمام هذه السيولة الفكرية والانحطاطات الأخلاقية من دعوات للشذوذ والعبث بالهوية الجنسية فيما يعرف بـ(الجندرية) الأمر الذي يهدد بناء الأسرة من داخله، وبالتالي سقوط المجتمع كله وزوال قيمه وانقلاب هرمه الأهم.
كما يساهم البناء الأخلاقي في الحد من انتشار الإرهاب والعنف وخطابات الكراهية التي تجتاح العالم الآن بتأكيده على أهمية التعاون والتشارك وفتح قنوات الحوار الجاد والفعال، كذلك فإنه ينمي حس الإنسان ووعيه بمحيطه وبيئته ما يساهم في الحد من الأزمات البيئية والصحية.
ولا شك أن مع تقدم المجالات التكنولوجية وبرامج الذكاء الاصطناعي ظهرت العديد من التحديات الجديدة الأخلاقية والفكرية، تستدعي اجتهادات ودراسات معمقة لوضع نظام أخلاقي بإمكانه مجابهة هذه التحديات.
ولا بد أن كل تلك التحديات تلقي مسئولية كبيرة على عاتق المؤسسات الدينية الرسمية والتعليمية الكبرى بتكثيف دورها في بناء الجانب الأخلاقي للمجتمعات وتدعيمه بمناهج ورؤى معمقة؛ لتكوين عقلية قادرة على التعامل والتحليل والمواجهة.
ومن ثَمَّ فقد كان اختيار عنوان «الفتوى والبناء الأخلاقي في عالم متسارع» للمؤتمر التاسع الذي تنظمه دار الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم لمناقشة تلك القضايا المهمة اختيارًا واقعيًا صحيحًا دقيقًا يتماشى مع ما نعيشه من أحداث عالمية ومجريات متلاحقة، كما يبرز الرؤية الثاقبة للمؤسسة الإفتائية المصرية، ورؤية الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم للواقع المعاصر، حيث يقام المؤتمر في يومي (29) و(30) من شهر يوليو الحالي، برعاية مباركة من فخامة السيد الرئيس: عبدالفتاح السيسي، في إطار رؤية الدولة المصرية الحثيثة لإجاد أرضية مشتركة عالمية تتيح مد جسور التعاون والتحاور البنَّاء، والعمل على إقرار نظام عالمي أكثر عدالة، يتأسس على القيم الإنسانية والأخلاق السامية، وقواعد القانون الدولي؛ لمنح حياة سالمة لأجيال اليوم والغد.
* مستشار مفتي الجمهورية