أمريكا إمبراطورية عظمى طوال القرنين الماضيين، وحتى الآن ما حققته للبشرية في عصرها، يفوق أضعاف ما حققته البشرية في كل عمرها، هي أصل وروح حضارة عالمنا المعاصر، التي نسميها الحضارة الغربية، كل شيء نعيش فيه من صناعتهم.
هي الآن القوى العظمى المتحكمة التي تغير جلدها، لتحافظ على الصدارة والتحكم في العالم، تنتج ما يقرب قيمته من 30 تريليون دولار، ما زال أمام الصين لتصل إلى الإنتاج الأمريكي سنوات طويلة، والمنافسة ممتدة، كانت أوروبا حتى عهد قريب هي الأقرب إلى فهم الإمبراطورية الأمريكية.
لكن الآن تغير الوضع، فعلى الرغم من المنافسة الحادة مع الصين، فهي الأقرب إلى فهم أمريكا وعصرها، فكل مدخرات الصين توظف داخل الاقتصاد الأمريكي وحكومته.
الصراع الدائر الآن في أوروبا، وما أعنيه حرب روسيا وأوكرانيا، هو في صميمه وجوهره حرب روسيا لتكون الأقرب إلى أمريكا، أو تقود أوروبا في تحالفاتها مع أمريكا في المستقبل، هذا الكلام، وهذا التحليل مقدمة لكي نفهم الانتخابات الأمريكية، جوهر السياسة ليس في هذه الإمبراطورية فقط، لكن في العالم كله، وقد تحولت أمريكا بالحادث الأخير والرصاصات التي أطلقت على دونالد ترامب.
تلك مقدمة طويلة لنفهم الأسطورة التي تبنى الآن، حيث انتهز الأخطبوط البارع ترامب، اللحظة الصعبة، فهو صياد ماهر، رجل أعمال تليفزيوني، تدرب في تليفزيون الواقع على تقديم ملكات الجمال، يخطف العقول بالنساء، لا تهزمه المحاكم أو المناظرات، وأخيرًا هو يهزم الرصاص، خرج بعد رصاصة أصابت أذنه، لكي يهتف: قاتلوا قاتلوا، خطف لب جمهوره، إن لم يكن خطف عقل أمريكا بولاياتها الخمسين، مثلما حول الحزب الجمهوري إلى حزب دونالد ترامب، لا صوت واحد جرؤ على أن يقول كلمة في الرئيس السابق والمرشح الحالي.
النظام الأمريكي يؤدب رئيسه ويهذبه ويعلمه الديمقراطية، ولن يحبسه، لكنه جعله «كعب داير» في الولايات المتحدة وبين الناس، لعله يتعلم، ويبدو أن لحظة أن أطلق عليه الرصاص، أدرك الحقيقة، وأنه أمام مهمة جديدة.
قام قبل يوم واحد من مؤتمر حزبه بتمزيق الخطاب الذي أعده لتكريس الانقسام الأمريكي، لكي يدعو إلى الوحدة لا الانقسام، وأن يكون أبًا جديدًا للنظام، لحظتها أدرك القيصر الجديد للبيت الأبيض أنه يجب أن يتغير، والأدهى أنه اختار مبعوثًا جديدًا، ليكون مع تذكرته الانتخابية، إشارة لجيل جديد من السياسيين الأمريكيين، سيناتور أوهايو، جي دي فانس، كنائب له، المرشح الشاب دون الأربعين بأيام، الذي انتخب للشيوخ، قبل أقل من عامين، وانتقل من معارضي ترامب إلى أبرز مؤيديه وأكثرهم بلاغة في الدفاع عنه وعن طروحاته.
ترامب يعود، وينافس غريمه بايدن الديمقراطي في معركة كل خيوطها تشير إلى تقدمه، لأن الرئيس العجوز لا يسمع ويخطئ في مخاطبة أنصاره، وقدرته أو سقطاته أصبحت أضحوكة أمريكا والعالم، والأخطر أن نائبته كمالا هارس، سجلت لدى الأمريكيين رقمًا قياسيًا في عدم احترامها أو تقديرها، برغم أن مؤشرات بايدن الاقتصادية والسياسية تجعله في مقدمة الرؤساء الأمريكيين، لكنها الانتخابات في عصر الصورة وعصر الجماهير والشعبوية، صنعت أسطورة جديدة للانتخابات، بطلها ترامب، تعاقبت من المحاكم إلى الرصاصات إلى المناظرة التي كانت كالملاكمة، يصرع البطل غريمه أمام الشاشات، وتجسد الجماهير لصوره المتلاحقة، إنها الملحمة التي تعزفها أمريكا كل أربع سنوات لاختيار رئيس يدير البيت الأبيض، لكنه بالقطع لا يدير أمريكا كلها، بل معه ولايات ومؤسسات وأمريكا تخطف لب العالم، بل تضحك عليه في مهرجانها الانتخابي، وتجعلنا نتصور أننا نختار القيصر الأول والأخير، في حين أنه مجرد رئيس في البيت الأبيض، لكن الإمبراطورية والولايات والمؤسسات بل والشركات العالمية، ماسك وغيره، يديرون الدنيا معه، الدنيا تغيرت. الرئيس الأمريكي كبير حقيقة، لكن لا تجعلوا الصورة المبهرة تخفي الصور الأخرى التي تشكل الدولة المتعاظمة الكبرى.