تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال عن آليات النهوض بالتعليم الإلزامي "ما قبل الجامعي"، وتناولنا المشكلات التي يتعرض لها التعليم في هذه المراحل الحرجة ما قبل الجامعة والتي يؤسس عليها في ما بعد.
إلا أننا في هذا المقام سنتحدث عن المشكلات التي يتعرض لها أيضا التعليم الجامعي وما بعده وسنتحدث عن آليات النهوض به لعلنا نصل معًا إلى علاج ناجع لهذا الداء الذي لا أعتقد أنه داء عضال، فإنه ينبغي لنا جميعًا أن نعترف أن ثمة مشكلات، وأنه لا ينبغي لنا أن نخوض مع الخائضين القائلين بأنه لا توجد مشكلات، لا وألف لا، فالمفكر الحقيقي هو الذي يكون مهمومًا بقضايا وطنه، وهل هنالك قضايا أهم من قضايا التعليم؟! أليس العلم هو السبيل الوحيد للنهوض ولتحقيق التنمية المستدامة؟! أليس التعليم مخرج رئيس من مخرجات الحوار الوطني، والذي طالب فيه الحكومة بالنهوض به؟!
وإذا كان ذلك كذلك، فمن باب واجبنا الوطني تجاه بلدنا الحبيبة مصر وبصفتي أستاذًا جامعيًا أعايش هذه المشكلات، فإلى حضراتكم آليات النهوض بالتعليم الجامعي، ومراحل الدراسات العليا وآليات النهوض بالبحث العلمي والرسائل العلمية؛ سواء النظرية أو العملية فى مرحلتي الماجستير والدكتوراه؛ حتى لا يخرج علينا أحد ويتهم بحوثنا العلمية ورسائلنا أنها عديمة النفع وعديمة الفائدة.
ألا سألنا أنفسنا لماذا وجه لنا هذا الاتهام؟
للإجابة عن كل هذه التساؤلات وأمثالها إليكم الداء، وكذلك الدواء، وهذا اجتهادي الشخصي.
يكتب الله النجاح للأعمال التي تتضافر فيها كل الجهود، وتخلص فيها النيات، والتي يقف الجميع فيها صفًا واحدًا في خندق واحد يضعون أياديهم في أيادي بعض ويلتفون بكل ما أوتوا من قوة خلف قيادتهم التي لا تألو جهدًا في مواصلة العمل ليلا ونهارًا من أجل رفعة هذا الوطن.
لا نثبط ولا نهبط الهمم، وإنما نتحد قدر استطاعتنا من أجل أن نبني وطنًا قادرًا على المواكبة ومسايرة ركب التقدم العلمي والتقني على كافة الأصعدة والمستويات، فلا يجوز بحال من الأحوال أن دولة بحجم بلدنا مصر الغالية أن تتوقف عن الإبداع والابتكار والمواكبة، من لا يكون لديه غيرة على بلده وحمية وحماس لنهضة هذا البلد فلا يحق له أن يحيا ويستظل بسمائها أو يشرب من نيلها.
تحدياتنا كبيرة والمتربصون بنا كثر، فلابد أن نشمر سواعد الجد، ونضع أعيننا وسط رؤوسنا لا بالكلام ولكن بالعلم والعمل الجاد.
لا يمكن لأمة أن تنهض وأن تقوم وأن تستمر إلا بالعلم، ما علمنا أن أمة قامت على الجهل والجهلاء، فليس عيبًا أن نكون جهلاء ونعترف بذلك، لكن العيب كل العيب أن نظل هكذا ولا نتعلم، وننتظر من يفكر لنا ويبدع لنا، نحن لسنا إمعة تابعين لأحد، وإنما نحن مصر حاضرة العلم والثقافة، نحن أهل الإبداع، ولنا في علمائنا السابقين الأسوة والقدوة في كافة المجالات في الطب، في الصيدلة، في الكيمياء النووية والذرية والطاقة، في الزراعة والصناعة والتجارة، في الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ، في الفن التشكيلي وما يحتويه هذا الفن من إبداعات، في الموسيقى، في فنون الزخارف، لماذا لا نسير على درب هؤلاء؟
هذا هو الداء الذي من الممكن أن نجد له دواء، فنتحول به من داء عضال إلى داء له دواء، فليس ثم داء دون دواء إلا الهرم، ونحن دولة فتية لم ولن تهرم دولة بها ثروة بشرية خطيرة إذا قدمنا لهم دواءً ناجعًا، وأعتقد أننا سنتعافى بسرعة كبيرة.
أما الدواء، فيمكن وضع ورقة علاجية أعتقد أنها إذا طبقت تطبيقًا دقيقًا سنشفى في وقت قصير.
الاهتمام بالبحث العلمي في الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية على كافة مستوياتها وتخصصاتها، ويحمل سبعة أبعاد:
البعد الأول: تخريج باحث متميز دون مجاملة لأحد؛ بمعنى أنه على الأستاذ دور فاعل في هذا الأمر؛ من حيث توجيه الدارس إلى اختيار موضوعات حيوية تخدم الواقع المعيش دون مجاملة لأحد، فإذا وجدنا بحثًا معتبرًا نجيزه، والعكس تمامًا، وهذا الدور منوط به الأستاذ المشرف على الرسالة أو البحوث.
البعد الثاني: معالجة مشكلة إحجام كثير من الدارسين عن الالتحاق ببرامج الدراسات العليا، نتيجة المغالاة في المصروفات الدراسية، والتعقيدات الإدارية الروتينية؛ مما يصيب بعض الدارسين بالإحباط.
البعد الثالث: إعطاء فرصة للدارسين في اختيار مشرفيهم؛ بمعنى لماذا يفرض بعض الأساتذة سيطرتهم وهيمنتهم على الدارسين وإجبارهم جبرًا على التسجيل معهم، دعوهم يختارون بأنفسهم مشرفيهم، دعوهم يقبلون على البحث العلمي بحب دون قيد، دون تهديد، دون تعقيد.
البعد الرابع: على الدارس أن يفكر جيدًا فيما هو مقدم عليه، هل هو على قدر المسئولية؟ هل حقًا يريد أن يقدم جديدًا أم يأتي للتسلية؟ فنحن لا نمتلك رفاهية الوقت للتسلية، فإن كنت حقًا تريد عملا جادًا فمرحبًا بك، وسنقف خلفك حتى تحقق مرادك!! كفانا تسلية وكفانا لعب!!
البعد الخامس: على الدولة توفير الإمكانات اللازمة، وإمداد الجامعات والمعاهد والمراكز البحثية بكل ما تحتاج إليه من معامل وأدوات معينة لإنجاح هذه المسألة.
البعد السادس: على الدولة توفير حياة كريمة للأساتذة؛ حياة يستطيعون معها الإبداع والابتكار، حياة مادية، بالإضافة إلى المعنوية من تكريم؛ فربنا تعالى في علاه كرم وعظم العلم والعلماء فالأساتذة لديهم أعباء معيشية، فلابد من النظر إلى هؤلاء حتى لا يغادروا بلادنا سعيًا وراء المال الذي يحقق طموحات أسرهم المعيشية، بدلا أن يحققوا نجاحات للجامعات التي يذهبون إليها ويجعلونها تحصل على تصنيف عالمي، فجامعاتهم أولى بهم.
البعد السابع: احتواء الدولة للدارسين من الشباب الذين يقدمون على البحث العلمي؛ فهم عصب الأمة وثرواتها الحقيقية، ويكون ذلك عن طريق تخفيض المصروفات الدراسية للالتحاق ببرامج الدراسات العليا، فأنا أعرف طلاب بحث جادين أوقفتهم الظروف المادية عن إكمال دراساتهم، على الرغم من أنهم مشاريع لدارسين وباحثين جادين ستستفيد منهم البلد وترقى وتتقدم إلى الأمام.
أعتقد أننا لو أخذنا هذا الكلام بعين الاعتبار ستتحقق المعادلة التي ليست صعبة، معادلة رموزها واضحة وشفراتها معلومة، وأعتقد أنها في أيادٍ أمينة يهمها مصلحة هذا البلد.
وفق الله الجميع لما فيه خير البلاد والعباد.
* أستاذ الفلسفة الإسلامية ورئيس قسم الفلسفة بآداب حلوان