تختلف مواقفنا وتتبدل رؤانا، تتأرجح حساباتنا السابقة وأحكامنا الصادرة على بعض القضايا؛ كلما تقدم بنا العمر سنلمس هذا، سندرك بأنفسنا مدى اتساع تلك الفجوة، لنكتشف بعدها كم التغيير الذي طرأ على تفكيرنا واقترن بإدراكنا، نجد تضاربًا كبيرًا بين رأي كوناه بعاطفة طائشة بالأمس، وبين رأي جديد بنظرة موضوعية تركت الحكم اليوم للعقل، لحظة خروج من غفلة تامة جعلتنا ندرك أن السبب كان يكمن وراء نقص ملحوظ لعمق تجربة وفرق توقيت.
قد تشاهد فيلمًا تتبنى فيه رأيًا وترفض فيه آخر، تجذبك أحداثه وقصته نحو حكم فينازعك فيه آخر، تسرع في إصدار القرارات دون تروٍ، تتناول قصته من زاوية ضيقة ومحدودة تجعلك تتقمص دور القاضي الأوحد بكل جرأة وجسارة، فتصبح فجأة مؤيدًا لهذا ومعارضًا لذاك. تطمئن لوجهة نظرك التي كونتها بواعز من عاطفة ثائرة بداخلك، لتجد أن أكبر خطأ ارتكبته كان بمنح ذاتك الثقة المطلقة في الحكم الذي ستصدره وكأنه حكم أبدي، متنازلًا بكامل رغبتك عن دور عقلك وما حواه من حسن فهم وإدراك.
على سبيل المثال: عند مشاهدة فيلم "أنا لا أكذب ولكني أتجمل" للكاتب الكبير "إحسان عبدالقدوس" كثيرًا ما كنت ألمس تعاطفًا مع شخصية "إبراهيم صالح" الفتى المغلوب على أمره من وجهة نظري حينذاك، كنت أشعر بانكساره بعد انكشاف أمره وأجهش بالبكاء، كنت أؤيده إذا ما أشار لمجتمعه الظالم بأصابع الاتهام، فقد برع في سرد قصته لدرجة جعلتني أعجز تمامًا عن رؤية الفارق الكبير بين مفهومي الكذب والتجمل؛ الآن أدركت أن هذه الشخصية التي جسد دورها الفنان الراحل "أحمد ذكي" بكل براعة لم تكن إلا شخصية -نرجسية- تسعى للوصول إلى الكمال عن طريق الكذب والاحتيال.
تمر السنوات فتتغير المفاهيم وتتلاشى الأحكام السابقة؛ لتحل محلها أحكام أخرى، أحكام تتناسب مع مرحلة اكتمال النضج إن صح القول، فأتعجب من نفسي التي راحت تهاجمني بشدة وتوبخني على تعاطفي في الماضي مع هذا الإنسان، فأبدأ في استدعاء المشاهد وأضعها في ميزان الحياد، أعكف على دراسة تلك الشخصية بمبدأ أكثر وضوحًا، فأتجه نحو ظروف تنشئته الاجتماعية وأثر بيئته التي احتضنته على سلوكياته التي انتهجها حتى وصلت به لمرحلة العداء المباشر مع مجتمعه.
لا لم يكن مسكينًا أبدًا كما توهمت في الماضي، فالفارق كبير وعظيم بين الكذب والتجمل الذي اعتنقه ونادى به، لم تكن هناك ضرورة تدفع به أو تجبره على الاسترشاد -بحسب ونسب- من نسج وهم ومن وحي خيال، لم يكن في حاجة لفعل كل هذا، فقد كانت تكفيه صورة ذلك الطالب الجامعي المكافح الذي ميزته سمات نبوغه وتفوقه علي كثير من أقرانه، ها هو الحكم الصحيح قد صدر الآن.
لقد سعى لصنع مظلوميته بنفسه وراح يتسول بأكاذيبه احترام الناس، كما أنه أسقط كل عيوبه على الشخصية التي أحبته بصدق وآمنت بقدراته، فراح يسقط عليها ما به من عقد نقص بكل تبجح وعناد، متهمًا إياها بأنها كانت ضمن هذه الأسباب التي دفعت به لهذا التجمل الذي ادعاه، فعل هذا أثناء حديثه معها مستغلًا وجود بعض الثغرات التي استخدمها ليقيم حربه عليها، فكانت تلك معركته الأخيرة في المراوغة وقلب الحقائق بكل مكر ودهاء.