تناولت في مقال سابق "علو الهمة.. لهيب الحياة ونور الطريق"، طرحًا ينادي لهذه الفضيلة المنقوصة لدى الكثير منا، وها أنا ذا أعود إليها مرة أخرى بعد قراءتي لكلمات المفكر الإسلامي القدير مالك بن نبي –رحمه الله- الذي يعتبر أحد رواد النهضة الفكرية الإسلامية في القرن العشرين، وامتدادًا لابن خلدون، كما أنه من أكثر المفكرين المعاصرين الذين نبَّهوا إلى ضرورة العناية بمشكلات الحضارة الإسلامية، والدفع بها قدمًا لعودة ريادتنا الإسلامية الغائبة طوعًا وقسرًا.
يقول مالك بن نبي في كتابه "مشكلات الحضارة.. شروط النهضة" "إنسان النصف هو الإنسان الشديد الإلحاح بطلب حقوقه، ولكنه لا يقوم بالحد الأدنى من واجباته، أو من ثقافة المتاح المتوفرة بين يديه، يذهب للمدرسة ليمضي الساعات فقط، وهمه الأكبر الحصول على تلخيص أستاذه، أو المادة المطلوبة للامتحان دون أن يكون هدفه التعلم، يذهب للعمل ويقضي ساعاته بأي طريقة، المهم بالنهاية أن ينقضي الوقت ويعود لحياته ويحصل على معاشه، لا يدرس كطالب، ولا يعمل كموظف، ولا يبدع في معمل، ولا يبتكر في متجر، ولا ينجز في مشروع، هو باستمرار إنسان النصف، يطالب بحقوقه ولا يقوم بواجباته".
صدقا وعدلا، شخَّص لنا ابن نبي حال أفراد الأمة الإسلامية العربية، وما أكثرهم بيننا الآن، فالغالبية منا –إلا من رحم الله- لا يقومون بالحد الأدنى من واجباتهم نحو مجتمعهم وبيئتهم، فلم يعد العلم، والعمل الجاد المخلص، والابتكار، والإبداع، والإنجاز دافعًا حثيثًا، وهدفًا رئيسًا لصيرورة الحياة والتشبث بها، لتقوم لنا قائمة بالتوازى مع الغرب الذي كان يرزح هزلا وضعفا تحت وطأة الجهل المستحكم فيه قبلا، على حين كانت حضارتنا الإسلامية تتلألأ إشعاعًا بنور العلم والتحضر فى كل بقاع الأمة الإسلامية، من مصر، إلى بغداد، إلى الأندلس، الى بلاد شرق آسيا الإسلامية، إلخ.
ولعل لجوهرية وشائكية قضية تأخر المسلمين، وما بها من أبعاد تاريخية، واجتماعية، واقتصادية، وسياسية، وتقدم غيرهم، متمثلا فى الغرب، ما جعل الكثير من أعلام الفكر الإسلامي يتناولها فى العديد من مؤلفاتهم، هذا بالإضافة للمقالات العلمية والأبحاث الأكاديمية، بدءًا من ابن خلدون فى مقدمته، الذى يقدم فيها تحليلًا تاريخيًا واجتماعيًا لتأخر الحضارات، وكتاب "لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم؟" لمؤلفه شكيب أرسلان الملقب بأميرِ البيان، ولسان الإسلام ومدرة العرب، الذي يناقش فيه أسباب تراجع العالم الإسلامي مقارنة بالغرب، وكتاب "تاريخ الفكر العربي" لكاتبه ألبرت حوراني، وفيه يقدم تحليلا لأسباب التراجع الحضاري الإسلامي، وكتاب علي عزت بيجوفيتش "الإسلام بين الشرق والغرب" والذى يعرض فيه رؤى حول الفروق الحضارية بين الإسلام والغرب، والكتاب الماتع الجامع "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟" لمؤلفه أبو الحسن الندوي، وغيرها الكثير.
إن "إنسان النصف" وليد طبيعي لمخاض التخلف والخيبة التى تعيشها أمتنا منذ ردح من الزمن، كونته عوامل التفكك والانهيار، وفساد الأخلاق، والجهل، واليأس والقنوط من رحمة الله، والجمود على القديم، والعلم الناقص، والجبن والهلع، وفقدنا لكل ثقة في أنفسنا، فكان التخلي عن الزمام والقيادة والمبادئ التي يفرضها علينا ديننا الإسلامى العظيم، والنكوص عن تبعاته، والانتكاسة إلى الجاهلية الأولى.
ولعل كلمات ووصايا فضيلة العلَّامة الراحل الدكتور عبدالسلام العبادي –رحمه الله- أمين عام مجمع الفقه الإسلامي الدولي السابق، وزير الاوقاف والشئون والمقدسات الإسلامية الأردني الأسبق الرائعة للأمة فى حواره معى، عن "تجديد الفكر الإسلامي والمشروع النهضوي الحضاري الإسلامي" الشائك، قد حفرت في قلبي وعقلي، وأريدك كذلك –قارئي الكريم- أن تضعها فى عقلك، وقلبك، مصونة، محفوظة، فيقول: حتى تتحقق لأمتنا الإسلامية نهضتها وتنميتها وتحيا حياة طيبة، ليس أمامنا إلا خيار التجديد، ونفض الغبار الذى تراكم على عقلية الكثيرين من أبنائها، وإذا أردنا تحقيق نهضة حضارية شاملة لأمتنا، فلا بد انطلاقها لإصلاح واقعنا، على هدي من ديننا، بنظامه الشامل، بعيدا عن استيراد النظريات، والمبادئ، والمناهج التي تخالفه، والخضوع لإملاءات خارجية.
أما قناعتى الشخصية فإنه حتى لا تكون الأمة أكثرها "إنسان النصف"، ونعالج ما ابتلينا به من الضعف والانحطاط في الأمور الدنيوية والدينية معا، نريد المواطن –كل فى موقعه- عالى وكبير الهمة، شريف النفس، الذى لا ينقض عزمه، وبقدر ما يتعنَّى ينال ما يتمنى، الذى لا يقنع بالدون، ولا يرضيه إلا معالى الأمور، المنطلق في خوض خطيرات الأمور، المضطلع بأعباء المهمات، الراكب ظهور العوائق، المتخطى رقاب الموانع إتماما لمشروعه، المحقق طموحه، وإن هذا لهو قمة النبوغ، وعين المجد.
صفوة قولى: ليكن مشروع كل منا، بدءا من أحلامنا التي نعيشها اليوم، برؤية تاريخية واسعة، ومعرفة حضارية كبيرة، لنكتب واقعنا غدا، في طيّات الأيام، مع أصحاب الرسالات، والمصلحين، والنابغين، والناجحين، ومن شهد له حسنى عمله، دفعا لأمتنا من كبوتها، وإيقاظا لها من سباتها، واستردادا لحضارتها المسلوبة، وصدق مالك بن نبي فى "شروط النهضة": "وإنها لشرعة السماء: غير نفسك.. تغير التاريخ!"
وكم اتفق مع أمير البيان شكيب أرسلان حين أقر حقيقة بيِّنة، مفادها أن الأمم الإسلامية تريد حفظ استقلالها بدون مفاداة ولا تضحية، وتُطالِب الله بالنصر على غير الشرط الذي اشترطه في النصر، فإنَّ اللهَ –سبحانه- يقول: "ولينصرن الله من ينصره" ويقول تعالى: "إنْ تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم"، فهل ينصرنا الله -عز وجل- بدون عمل؟ بالطبع لا!!
أسأل الله أن تعاد لنا خصال وخلال الأمانة، والهمة العالية، والعزيمة، والإرادة الصادقة، لنعيد أمجاد أمتنا وعزها المسلوب، والله قادر وغالب!!