إنها أكبر من مجرد "لعبة كرة قدم"، بل دراما صاخبة تختلط فيها أحاسيس الزهو بالانتصار، بلحظات انكسار ودموع المهزوم. في يورو 2024 يتعاطف الملايين من المشاهدين حول العالم مع كفاح الدول الصغيرة، وهي تحاول كتابة تاريخ لنفسها في عالم الساحرة المستديرة.
وبينما تقدم البطولة الأوروبية لحظات فرح للمنتصر، فهي تغمر الجميع بلمحات قاسية خلاصتها "ويل للمهزوم" في عالم كرة القدم، فقد كان الأسطورة رونالدو ورفيقه بيليه على بعد خطوة من نهاية حزينة لحياة حافلة، فالأول أهدر ضربة جزاء، والثاني أخطا وتعثر، وكاد لاعب سلوفينيا أن يحرز هدف الانتصار، ويكتب السطر الأول في تاريخ مجيد لبلاده في البطولات الكبرى.
لم تكن دراما المسرح في المستطيل الأخضر، أو حوله من استوديوهات تحليل، بل كان الأمر أكبر من اللعبة الجارية أمامنا، لم يعد خافيًا سوق المراهنات الواسع سواء المعلن عنه أو المخفي منه، ولا رغبات ولا نقول تعليمات الرعاة التي تفرض توقيتات وشروط صارمة، وصلت لحد شائعة ضرورة أن يتم مساعدة ميسي للفوز بكأس العالم الأخيرة حتى "تكتمل الأسطورة"، وإذا توقفنا لحظة في الدوري المحلي، فثمة شكوى من التحكيم وتنظيم البطولة لمجاملة نادٍ واحد يحتكر البطولات، ومما زاد الأمر سوءًا أن يقول وزير سابق أن مصر تنام سعيدة عندما يفوز هذا النادي.
ولكن بعيدًا عن المداعبات اللطيفة، فهناك واقع يفرض سطوته بقسوة على الجميع، فقد انتهى "زمن الهواية"، وبدأ زمن الاحتراف والبزنس، ولم يعد هناك مساحة للانتماء أو العواطف، بل أموال باهظة في عمليات بيع وشراء اللاعبين، وباتت الأندية ذاتها، وكل ما يتصل بها صناعة كبرى.
ويقدر حجم سوق أندية كرة القدم بمبلغ 913.92 مليون دولار أمريكي في عام 2024، ومن المتوقع أن ينمو بمعدل يزيد عن 5٪ خلال الفترة من 2024-2029، و في عام 2022، استحوذت أمريكا الشمالية على أكبر حصة من سوق أندية كرة القدم، ومن المتوقع أن تكون إفريقيا هي المنطقة الأسرع نموًا، ومن المتوقع أن تستفيد السوق من النمو الاقتصادي القوي المتوقع لعدد من الاقتصاديات المتقدمة والنامية.
وباتت الدول في جميع أنحاء العالم تزاحم للفوز "بحصة عادلة" من سوق كرة القدم، والتي تنمو بسرعة رهيبة على المستوى العالمي، ولن يمضي وقت طويل حتى تكون هناك شراكات إعلامية جديدة، والمزيد من الابتكار من خدمات البث وتوسيع نطاق وصولها، كما أن أندية كرة القدم باتت تستخدم وسائل التواصل الاجتماعي، وتطبيقات الأجهزة المحمولة لتوسيع نطاق وصولها، والتواصل مع المشجعين بطريقة شخصية أكثر، ووفر ذلك إيرادات جديدة، منها الإعلان الرقمي، والتسوق عبر الإنترنت وخدمات البث.
ومن ناحية أخرى باتت كرة القدم أحد أهم وسائل خلق وتعزيز العلامة التجارية للدول، فمثلا يقال عن منتخب ألمانيا "الماكينات الألمانية"، ومنتخب سويسرا "دقة الساعات السويسرية".
وفي الوقت نفسه باتت الحكومات تتصارع للفوز بتنظيم البطولات الكبرى، بل يتدخل رئيس فرنسا ماكرون والأمير تميم أمير قطر لمحاولة إبقاء كليان مبابي للبقاء في باريس سان جيرمان، نظرًا لأنه أيقونة فرنسية، ويعطي رونقًا للدوري الفرنسي، ويجذب الزائرين من خارج فرنسا للقدوم لمشاهدته.
ولا يخفى هنا قوة العلامة التجارية لكل من الأهلي والزمالك، وكيف تتنافس دول عربية عدة على تنظيم الديربي الأشهر في عالمنا العربي بينهما على أراضيها، ولا كيف يجب أن تنافس القاهرة للفوز بتنظيم كأس السوبر الإفريقي بين الزمالك والأهلي مع عدة عواصم عربية في الفترة الأخيرة، ويكفي أن دراما تنظيم كأس العالم لكرة القدم في قطر 2022 لم تزل تتفاعل حتى الآن، فهناك من يرد هجوم الدول الغربية على الدوحة خلال البطولة بمهاجمة ألمانيا لسوء التنظيم، وسوء البنية التحتية مقارنة بجودة كل شيء تقريبًا في مونديال الدوحة.
.. ويبقى أن الزمن الجديد يدق أبواب عالمنا بقوة، ولم تعد المسافة بعيدة ما بين الترفيه، والكبرياء الوطني، والمكانة ما بين الأمم، ولم يعد البحث عن موارد جديدة أو حملات الترويج لاجتذاب السائحين، ولا جهود جذب استثمارات أجنبية مباشرة ولا تصحيح الصورة المغلوطة، ولا الترويج لشعار "صنع في مصر".. لم يعد كل ذلك بعيدًا عن ساحة كرة القدم.. تري هل نتخلص من الوجوه القديمة بوجوه محترفة تعرف قواعد اللعبة في الزمن الجديد القادم.